مطلعَ 2009 لاقي انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة ترحيبا في تركيا وكذلك في الدول الإسلامية. لم يكن هذا الترحيب الإيجابي فقط لأن اسم والده “حسين”، بل لأن تأكيده -في حملاته الانتخابية- انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق كان له الفضل في زيادة الأمل في تحقيق السلام الإقليمي.
ومع ذلك، فإذا أردنا أن نصف رئاسة أوباما لولايتين -في ما يتعلق بالشرق الأوسط وتركيا- بعبارة واحدة، فإنه يمكننا القول: إنها قد أدت إلى خيبة أمل كاملة؛ إذ لم يتم سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، بل تعمقت الأزمات في هذين البلدين.
وأدت السياسات المتضاربة لإدارة أوباما في السياسة السورية وعدم استيعابها الواقع السياسي على الأرض، إلى زيادة الفوضى في الشرق الأوسط كله. وفي نفس الوقت، قادت رؤيتها السياسية إلى تشجيع المنظمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على استغلال هذا الوضع.
وفي واقع الأمر؛ استطاع أوباما بذلك أن يمكّن إيران وبشار الأسد من تدمير الثورة السلمية في سوريا بالقوة، وبعد ذلك تم جر البلاد إلى الفوضى. وقد أدى هذا الخطأ القاتل من أوباما إلى إعطاء الفرصة للجماعات الإرهابية لترتيب أوراقها والتمركز على الحدود العراقية السورية.
ورغم كل التحذيرات التي أطلقتها تركيا، فقد اتخذت واشنطن خطوات شجعت المنظمات الإرهابية في المنطقة، وسبّبت مشكلات خطيرة في علاقاتها مع تركيا التي تعتبر أكبر حليف لها فيه. ولذلك اضطرت تركيا إلى العمل جنبا إلى جنب مع روسيا لحل مشاكلها.
وبغض النظر عن كيفية تقييم إدارة أوباما، فإن حقبته ستظل الفترة التي ارتكبت فيها الإدارة الأميركية أخطاء قاتلة بالنسبة لكل من الشرق الأوسط وتركيا، حيث أدت إلى انتشار الفتن وانعدام التوازن، وتركت خيبة أمل كبيرة.
إعادة إنتاج التاريخ الأميركي
ورث دونالد ترمب حطاما من سياسة أوباما الخارجية. وفي الحقيقة فإنه ليس هناك ما يشير إلى أنه سيقوم بتنفيذ سياسات من شأنها تصحيح هذا الوضع، بل ينبئ خطابه المنفر الذي استخدمه في حملاته الانتخابية، وسعيه الحثيث لتحويل هذا الخطاب إلى واقع عملي بمجرد وصوله إلى الحكم، بأن بلاده ستواجه -في عهده- صعوبات خطيرة خاصة في العالم الإسلامي.
“يعبّر ترمب حرفيا عن الفكر الجمهوري الكلاسيكي الذي لا يأبه لأفكار الشعوب والدول الأخرى، بل وأحيانا يزدريهم، مما قد يزيد العداء لأميركا الذي وصل ذروته في السنوات الأولى من هذا القرن. وقد تؤدي العلاقات غير الصحية مع بقية دول العالم إلى خلق هزات مستمرة ومكثفة”
يعبّر ترمب حرفيا عن الفكر الجمهوري الكلاسيكي الذي لا يأبه لأفكار الشعوب والدول الأخرى، بل وأحيانا يزدريهم، مما قد يزيد العداء لأميركا الذي وصل ذروته في السنوات الأولى من هذا القرن. وقد تؤدي العلاقات غير الصحية مع بقية دول العالم إلى خلق هزات مستمرة ومكثفة تفوق تلك حدثت في أعقاب حرب فيتنام، وذلك إذا لم تُنفذ سياسات إصلاحية.
وعلى وجه الخصوص، أدى قرار ترمب بحظر منح تأشيرات دخول أميركا لمواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة إلى جدل واسع بشأن عدم قدرة البلاد على التماشي مع قيمها الديمقراطية وفلسفة تأسيسها.
إن استخدام كلمتيْ “الإسلام” و”الإرهاب” مقترنتيْن في عبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف” -التي استعملها ترمب في حفل تنصيبه- يعطي إشارات مهمة عن مرحلة جديدة في الولايات المتحدة. أما الخطاب التمييزي الذي استخدمه ترمب خلال حملته الانتخابية، والخطوات التي اتخذها في هذا الاتجاه بعد توليه منصبه، فقد وضعت المبادئ التي تشكل فلسفة تأسيس البلاد في بؤرة النقاش.
وإذا نظرنا إلى تاريخ أميركا، فإنه يمكننا القول إن هذا التمييز ضد المسلمين ليس وضعا جديدا في البلاد، كما يمكننا ملاحظة أنه قد تم تنفيذ العديد من السياسات التي كانت تستهدف الإسلام والمهاجرين الجدد في الولايات المتحدة.
أعاد خطابُ ترمب بشأن المهاجرين وموقفه تجاه العالم الإسلامي هذه الممارسات غير القانونية في التاريخ الأميركي إلى الأذهان. وأثار ذلك بشكل طبيعي سؤالا هو: هل عادت الولايات المتحدة إلى سابق عهدها؟
وعلى وجه الخصوص، فإن استخدامه كلمتيْ “الإسلام” و”الإرهاب” معا في عبارة واحدة، ووعده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفرض حظر على تأشيرات دخول مسلمين لأميركا، قد ولّدت كلها ردود أفعال خطيرة بين شعوب العالم الإسلامي. وكذلك وجود أسماء بارزة في الفريق الأساسي لترمب لها ماضيها المعادي للإسلام.
وفي الحقيقة، فإن خطاب ترمب غالبا ما يُبرز للواجهة إعادةَ أميركا القوية السابقة، ودائما ما يذكر أنه سيتم استخدام الاقتصاد كأداة ناجزة، ويشدد على اتباع الأدوات الأمنية الصارمة، ويعرب عن رغبته في تقوية صناعة الدفاع، كل ذلك يعطينا دلالات هامة على أن العالم بأسره سيواجه ممارسات خطيرة في عصر ترمب.
ترمب والشرق الأوسط
مثلما هو الحال في الشرق الأوسط؛ فقد خلفت إدارة أوباما أزمات كبيرة في العلاقات بين أنقرة وواشنطن. وأعتقد أن أهم سبب لذلك هو أن إدارة أوباما لم تحاول أن تتصرف وفقا لواقع المنطقة، بل حاولت فرض واقعها هي على المنطقة.
وهذا من حيث المبدأ هو مفهوم السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة خاصة -والعالم الغربي عموما- في المنطقة. وعلى الأقل، لاحظنا أن هذا ما تم تطبيقه بشكل شديد الوضوح خلال فترة حكم أوباما.
“من الممكن استنتاج أن بعض دول المنطقة تتوقع أن ترمب سيتدخل بشكل سريع وفعّال في قضايا الشرق الأوسط، وخاصة في القضية السورية. ورغم أن تصريحاته تجاه إيران واستخدامه تعبيرات في الشأن السوري أقرب لما تطرحه تركيا أمر له دلالات هامة، فإنه من المناسب أن نعرف أيضا: هل يمكن أن يتحول هذا الخطاب إلى أفعال؟”
ومقارنة مع الرؤساء الأميركيين السابقين، كان أوباما أكثرهم انخراطا في سياسات الشرق الأوسط. وعند مقارنة مواقفه بمواقف سابقيه فإن الأمر بالتأكيد يسير في اتجاه مختلف. إن مفهوم أوباما للسياسة -الذي انتهجه خلال فترة حكمه- أعطى الفرصة لانتشار المنظمات الإرهابية مثل داعش التي أصبحت تهديدا عالميا.
وفي الواقع فقد أعلن ترمب -أمام وسائل الإعلام- أن تنظيم داعش كان صنيعة لأوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون: “نعم؛ أوباما هو من أسس داعش، وهيلاري كلينتون المخادعة هي شريكته في ذلك”، على حد قول ترمب.
لا تزال سياسة أميركا تحت رئاسة ترمب شيئا مبهما. ولذلك فإن عدة بلدان في المنطقة -وخاصة تركيا- في ترقب لكي ترى في أي اتجاه ستكون الخطوات التي سيتخذها ترمب بشأن الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، علينا أن نشير إلى أمرين: أولا، من الممكن استنتاج أن بعض دول المنطقة تتوقع أن ترمب سيتدخل بشكل سريع وفعّال في قضايا الشرق الأوسط، وخاصة في القضية السورية. ورغم أن تصريحاته تجاه إيران واستخدامه تعبيرات في الشأن السوري أقرب لما تطرحه تركيا أمر له دلالات هامة، فإنه من المناسب أن نعرف أيضا: هل يمكن أن يتحول هذا الخطاب إلى أفعال؟
ثانيا، موقف ترمب العام تجاه العالم الإسلامي؛ فرغم أن ترمب لم يعط إشارات إيجابية في هذا الصدد حتى الآن، فإنني أعتقد أنه يدرك تماما أنه ليس من الحكمة أن يستعدي المسلمين الذين يشكلون ثلث سكان العالم.
بعض التقييمات -وخصوصا تلك التي تخص جماعة الإخوان المسلمين المعترف بها في أكثر من 20 دولة- تتجه إلى إعلانها منظمةً إرهابيةً من قبل الإدارة الأميركية الجديدة، وستكون لذلك آثار كبيرة على العلاقات بينها وبين العالم الإسلامي.
وهذا الأمر لن يكون مقبولا من أي فرد مسلم أو حكومة باستثناء تلك التي على شاكلة الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي في مصر، وسيؤدي إلى مراجعات جدية في المواقف من الولايات المتحدة.
وفي الواقع، فإن مجلة “بوليتيكو” الإيطالية نشرت تقريرا يشير إلى أن المخابرات الأميركية حذرت من أن مثل هذه الخطوة قد توفر الوقود لمعاداة واشنطن في المنطقة، وستؤثر تأثيرا كبيرا على العلاقات مع حلفائها.
ومثل هذا القرار المزمع اتخاذه ضد جماعة الإخوان المسلمين -التي لم تلجأ إلى أي نوع من أنواع العنف رغم كل الضغوط التي مورست عليها منذ إنشائها- ستكون له آثار خطيرة لن تقتصر فقط على المصالح الأميركية.
ترمب والعلاقات مع تركيا
وإذا كان لنا أن نقيم الوضع بالنسبة لتركيا تحديدا، فإن أوباما قد ترك وراءه اثنتين من القضايا الهامة في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة: الأولى، دعم واضح من الولايات المتحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي الإرهابي وجناحه العسكري الذي يعمل في شمال سوريا والتابع لحزب العمال الكردستاني الإرهابي.
والثانية، أن فتح الله غولن -زعيم المنظمة الإرهابية التي كانت وراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا- ما زال يقيم في أميركا، ولم تُتخذ أي خطوات لتسليمه إلى تركيا، رغم كل الأدلة التي تم تقديمها إلى إدارة أوباما بخصوص تورطه في محاولة الانقلاب.
“الانسجام بين الولايات المتحدة وتركيا -التي سعت جاهدة لإقامة نظام إقليمي جديد، ويرجع ذلك جزئيا إلى الوضع في سوريا- سيؤدي إلى نتائج إيجابية هائلة ليس فقط للعلاقات بين البلدين، ولكن أيضا لصالح المنطقة بأسرها”
هاتان القضيتان أثارتا الشكوك حول جدية التحالف بين تركيا والولايات المتحدة. وقد أصبحت اليوم صورة أميركا في عيون الشعب التركي هي صورة الدولة الراعية للمنظمات الإرهابية. وكذلك فإن الغالبية العظمى من الشعب التركي ترى أنها هي السبب في وصول الأزمة السورية إلى هذه النتائج السيئة.
وما زال من المبهم كيفية عمل ترمب على هاتين المسألتين، كما هو الحال في العديد من الملفات. ولذلك، فإذا استمر الوضع على هذا الحال أو استمرت حالة الضبابية تلك؛ فإن تركيا ستتحرك أكثر في اتجاه روسيا وسيزيد هذا الوضع التوترات بين أنقرة وواشنطن. وإذا استمر ترمب على موقفه من الإسلام -وبالتالي من المسلمين- فإن ذلك من شأنه أن يوصل العلاقات الثنائية بين البلدين إلى نقطة الانهيار.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الانسجام بين الولايات المتحدة وتركيا -التي سعت جاهدة لإقامة نظام إقليمي جديد، ويرجع ذلك جزئيا إلى الوضع في سوريا- سيؤدي إلى نتائج إيجابية هائلة ليس فقط للعلاقات بين البلدين، ولكن أيضا لصالح المنطقة بأسرها.
ودون أدنى شك، فإن تطوير العلاقات مع روسيا والتطبيع معها كدولةٍ “صانعةِ سياسات” في المنطقة سيُسهم في توسيع نطاق نفوذ تركيا ودورها كدولة رئيسية “فاعلة ومسؤولة” في الأزمة السورية. وسيؤدي ذلك إلى نتائج مبهرة خصوصا في الحرب ضد الإرهاب الدولي، كما سيعطي مزايا هامة لتركيا.
وينبغي التأكيد على أن ظهور نتيجة استفتاء 16 أبريل/نيسان القادم على التعديلات الدستورية في تركيا بـ”نعم”، سيعني أن دور تركيا باعتبارها الطرف “الفاعل المسؤول” الجديد ستكون له نتائج دولية بالإضافة إلى النتائج الإقليمية.
ولذلك فمن الممكن القول إن الخطوات التي ستقوم بها الإدارة الأميركية الجديدة ستؤدي إلى تطورات بارزة في العلاقات بين أميركا والشرق الأوسط، وكذلك بينها وبين وتركيا.
جاهد توز
الجزيرة