شكّل كلام السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، حول الأولويات الأميركية في سورية، تلاقياً وتناقضاً مع الأولويات الروسية كما حددها نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف في حديثه الى «الحياة». كلاهما اتفق على هدف إخلاء سورية من الإرهابيين كي لا تكون ملاذاً آمناً لهم بعد الآن. إنما هايلي بادرت الى تأكيد ضرورة أن «نُخرج إيران ووكلاءها» من سورية، فيما أكد بوغدانوف أن هذا قرار سيادي يُتخَذ لاحقاً طبقاً لما ترتأيه الحكومة السورية حينذاك، وهذا ينسحب على «حزب الله». هايلي تحدثت عن ضرورة أن «نقوم بتأمين حدود حلفائنا بحيث تكون لديهم الثقة بحدود آمنة»، قاصدة بذلك إسرائيل بالدرجة الأولى الى جانب العراق وتركيا. بوغدانوف ربط الضمانات لإسرائيل بمسألة احتلالها الجولان وبموضوع مزارع شبعا في لبنان، داعياً «ممثلي حكومات الأطراف للجلوس وراء طاولة مستديرة لتطبيق مبادرة السلام العربية». في هذه الأثناء، كان لافتاً عقد اجتماع ثلاثي أميركي – روسي – تركي في انطاليا ضم رئيس أركان الجيش التركي، خلوص أكار، وقائدي الجيشين الروسي، فاليري غيراسيموف، والأميركي جوزيف دانفورد، مطلع الأسبوع لبحث الملفات الإقليمية وفي طليعتها الملفان السوري والعراقي. فيما برزت تطورات ميدانية ذات أبعاد كردية داخل سورية لدى تركيا، وكذلك عبر تواجد عسكري أميركي في غرب منبج. إضافة الى ذلك، بدأت إدارة دونالد ترامب في صياغة استراتيجيتها في معركة الرقة المرتقبة والتي تريدها حاسمة في مسيرة القضاء على تنظيم «داعش» كأولوية قاطعة. كل هذا وسط تضارب الكلام عن تقسيم في سورية والعراق واليمن وليبيا وحول إعادة توحيد هذه البلاد الممزقة. وتبرز إيران والأكراد في الحديث عن التقسيم، لأسباب مختلفة كلياً. والمؤشرات الآتية من الإدارة الأميركية الجديدة تفيد بالعزم على قطع الطريق أمام أية خطط تقسيمية تلبي المشروع الإيراني في سورية والعراق، فيما المؤشرات الآتية من الحكومة الروسية تفيد بأن التعايش مع التقسيم وارد إذا فشلت التسويات السياسية التي تأخذ في الاعتبار الناحية الإيرانية.
المشهد معقد في العلاقات الأميركية – الروسية – التركية – الإيرانية بالذات في سورية والعراق والذي تغيب عنه الدول العربية الخليجية بقرار الانتظار. المسألة الكردية حاضرة جداً في هذا المشهد المعقد. فهي من جهة حيوية في الاعتبارات الأميركية والروسية على السواء، وهي من جهة أخرى وجودية في موازين العلاقات مع تركيا وكذلك مع إيران.
إدارة ترامب، كسابقتها إدارة أوباما، تقدّر العزيمة لدى الأكراد كمقاتلين جديين أثبتوا أنهم في الصف الأول في الحرب على «داعش». ولذلك فهي متمسكة بدعمهم كأداة لا يُستغنى عنها لتحقيق هدف القضاء على «داعش». ثم إن الأكراد والعشائر السنية العربية هي، في رأي إدارة ترامب، المرشح الجدي الذي يستحق الاستيلاء على الجغرافيا التي يتم تنظيفها من «داعش»، وليست إيران صاحبة مشروع «الهلال الفارسي» الممتد في الأراضي التي استولى عليها «داعش» في العراق وسورية وصولاً الى لبنان حيث «حزب الله» الذي يعلن ولاءه لطهران.
روسيا توافق الولايات المتحدة على رفع راية الأكراد، وهي كانت حريصة على إعطائهم دوراً مركزياً في مسودة دستور لسورية تحمل بموجبه اسم «الجمهورية السورية» وليس «الجمهورية العربية السورية». وبحسب مراقب مطلع «إن من يضمن الأكراد في سورية هو روسيا». وكان لافتاً ما قاله بوغدانوف في حديثه الى «الحياة» الذي نشر يوم الإثنين الماضي متحدياً تركيا ومعارضتها قيام دولة كردية في سورية إذ قال: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟ أعتقد أن هذا ليس من شأنهم. هذا شأن عراقي وشأن سوري. الشعب السوري، وليس الروسي أو التركي، يقرر شكل الدولة والقيادة. وهذا هو موقفنا. تغيير النظام وترتيب الأمور شأن سيادي وداخلي».
كان لافتاً أيضاً ما قاله بوغدانوف عندما طُرِح عليه سؤال حول مخاوف من التقسيم في المنطقة العربية، في إشارة الى سيناريو الدولة الكردية في العراق و «احتمالات التقسيم في العراق وسورية». بوغدانوف قاطع ليضيف «وفي اليمن وليبيا»، مؤكداً «احترام سيادة الدول» مقابل «مبدأ حقوق الشعوب في تقرير مصيرها». قال إنه «توجد أحياناً دساتير تشمل مبادئ فيديرالية أو لا مركزية، وهذا مهم لإيجاد آليات لتسوية المشكلات»، شرط «أن يكون أي مخرج على أساس قانوني ودستوري والمهم عدم الخروج عن القوانين». أشار الى ما سمعه في أربيل بأن «هناك حكومة ورئيساً وعلماً وكل صفات الدولة ونحن نريد الشيء نفسه في سورية. قلنا لهم إن هذا السؤال يجب ألّا يوجه الى روسيا لأن هذا أمر توافقي ومنصوص في الدستور العراقي. وهم اتفقوا على هذه الفكرة ونفذوها في شكل قانوني».
إذاً، روسيا منفتحة على احتمال قيام دولة كردية في سورية وليس فقط دولة كردية في العراق، أو أقله كيان كردستان كجزء من كونفيديرالية أو فيديرالية في سورية. تركيا تعارض. إيران تتخوف لكنها تساوم. فهي تخشى من أن يصل نموذج كردستان الى أراضيها حيث كرد إيران أيضاً لديهم طموحات وطنية. لكنها أيضاً تدرك أن احتفاظها بما تريده في سورية والعراق يتطلب منها الموافقة على التقسيم في سورية والعراق كي تحتفظ بمشروع «الهلال الفارسي».
إدارة ترامب واعية للأمر ولذلك يتحدث المقربون منها بلغة إعادة توحيد سورية reunification من أجل قطع الطريق على المشروع الإيراني، وكذلك من أجل استعادة تركيا من روسيا في حال فشلت فكرة الصفقة الأميركية – الروسية. يقولون أيضاً إن إعادة توحيد سورية تعني، عملياً، مغادرة بشار الأسد لأنه غير قادر وليس مؤهلاً لقيادة سورية الموحدة. هذا ما يقولونه. ما في الخفايا أمر آخر، لا سيما أن أحاديث الصفقات في بدايتها وأن تقسيم الدول العربية مطلب إسرائيلي.
الواضح في هذه المرحلة هو أن روسيا ليست جاهزة، حالياً، لصفقة مع الولايات المتحدة تضحي بموجبها بحليفها الاستراتيجي الإيراني، وهي أيضاً غير جاهزة للتضحية ببشار الأسد في هذا المنعطف. واضح أن إدارة ترامب لن ترضى بأن تحل إيران في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» بعد تحريرها، فهذا ليس خياراً من خياراتها. الأكراد بمفردهم غير قادرين على استلام تلك الأراضي. وتركيا خيار مستبعد تماماً. ما يدور في الكلام عن البدائل هو مزيج من الأكراد والعشائر السنية العربية وكذلك مقاتلين يتم إعدادهم ليكونوا هم «القوات على الأرض» boots on the ground. واشنطن لا توافق موسكو على تولي القوات النظامية السورية مهمة تسلّم الأراضي التي يتم إخلاؤها من «داعش». ولا بد أن هذا الموضوع كان جزءاً من الحديث الذي أجري بين كبار قادة الجيش التركي والروسي والأميركي في أنطاليا.
شرق وغرب الفرات دخلا أيضاً ضمن أحاديث القيادات العسكرية بعدما ضمنت تركيا «تنظيف» حدودها من الأكراد غرب الفرات وبعدها دخلت الولايات المتحدة ميدانياً لتردع الأتراك وتحمي الأكراد شرق الفرات. الغائب الحاضر عن اللقاء العسكري الثلاثي المهم كان إيران التي تتمسك بمناطق في سورية تضمن لها التواصل بين العراق ولبنان.
ماذا ستفعل إدارة ترامب؟ هوذا السؤال الأهم. ماذا تريد إسرائيل؟ هوذا السؤال الغامض، علماً بأنها في الماضي بنت علاقات تهادنية مع إيران اعتبرها البعض «تواطئية» مع مشروع «الهلال الفارسي»، علماً بأن اليهود والفرس لم يسبق أن دخلوا حرباً مباشرة في ما بينهم عبر التاريخ. البعض يقول إن ما تريده إسرائيل الآن هو تجريد «حزب الله» من صواريخه الى جانب تطويق القدرات الإيرانية الصاروخية التي هي خارج الاتفاق النووي مع إيران، بحسب ما تؤكد طهران.
هل ستكون هذه المسائل المهمة موضع الصفقات أو أنها ستكون فتيل الحروب؟ وإذا كانت فتيل الحروب، هل سيتم اتخاذ قرارات الحرب عبر الخاصرة الضعيفة، وهي «حزب الله» في لبنان، أو أنها ستكون نتيجة «حاجة» إدارة ترامب الى حرب لاحقة أكبر، تحوّل الأنظار عن الاضطراب الداخلي الذي يطوقها؟
الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة وروسيا ما زالت بعيدة جداً، بالذات في ضوء اللاثقة الأميركية بروسيا وكذلك شكوك جزء من القاعدة الشعبية الأميركية بالرئيس دونالد ترامب. إيران تبقى واجهة الاختلاف بين إدارة ترامب والحكومة الروسية حالياً، وهي قلقة لأن المؤشرات حتى الآن تفيد بأن الإدارة الأميركية الجديدة غير جاهزة أبداً لتتقبل الطموحات الإيرانية الإقليمية. ما يريحها هو أن روسيا غير جاهزة، من جهتها، لتتقبل الانفصال عن إيران، مهما تكاثر الكلام عن هذه الحتمية.
تبقى تركيا في طليعة التجاذبات الأميركية – الروسية، أقله مرحلياً، وهي بدورها قلقة من ارتكاب أخطاء تورطها. تركيا مصرة على بناء الجسور مع روسيا لكنها غير مستعدة للتخلي عن الأولوية القاطعة لها وهي انتماؤها لحلف شمال الأطلسي (ناتو). إنها تحاول الإبحار في مياه عاصفة، لذلك تتخبط، لكن سفينة النجاة لها حالياً هي شراكتها الميدانية في سورية في العزم الأميركي – الروسي المشترك على الأولوية «الداعشية». أما مشكلتها الكردية، فهي مجمّدة في مكافآت دولية للأكراد لا ترتقي الى طموحاتهم التاريخية باستثناء الإقليم الكردي في العراق.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية