على عكس ما كان متوقعًا، لم تنجح دول الثورات العربية في أن تضع حدًّا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها، بل على النقيض، زادت الفجوة بين الطبقات المجتمعية المختلفة، وتصاعدت معدلات الفقر ونسب البطالة، وهو ما انعكس على زيادة النزعة نحو الهجرة عبر طرق غير شرعية، سواء إلى دولٍ داخل المنطقة العربية، أو إلى الدول الأوروبية، بهدف الحصول على فرص حياتية ومعيشية أفضل، أو حتى للبحث عن ملاذ آمن لمواجهة التحديات الأمنية، وهو ما يبدو أنه سوف يستمر أو يبقى على معدله خلال عام 2015، لثبات العوامل المحفزة في اتجاه الهجرة.
ظاهرة منتشرة:
تزايدت بشكل ملفتٍ للانتباه عمليات الهجرة غير الشرعية في المنطقة العربية، سواء بين دول المنطقة وبعضها بعضًا، أو من الدول العربية للدول الأوروبية. وعلى الرغم من عدم وجود تقديرات رسمية محددة بشأن أعداد المهاجرين غير الشرعيين؛ تظل التقارير غير الرسمية والدراسات البحثية مؤشرًا أوليًّا على معرفة حجم ووضعية الظاهرة، التي لم تعد مقصورةً على دولة بعينها؛ إذ تنتشر بشكل واضح في كلٍّ من مصر وتونس وليبيا واليمن والمغرب، فضلا عن العديد من الدول الإفريقية التي تتخذُ الدول العربية، خاصة المطلة على البحر المتوسط، محطة أو دولة ترانزيت للانتقال إلى أوروبا.
ووفقًا لتقديرات وإحصاءات رسمية غربية، فقد بلغ عدد الذين وصلوا إلى شواطئ القارة الأوروبية من الدول العربية 140 ألفًا منذ بدايات عام 2011 وحتى منتصف عام 2014.
ففي تونس، بلغ عدد الشبان الذين شاركوا في عمليات الهجرة غير النظامية منذ انطلاق ثورة “الياسمين”، ما يقرب من 60 ألف شخص، ينتمي 80% منهم إلى المناطق الفقيرة، وذلك وفقًا لدراسة حديثة صدرت عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي أكدت أيضًا أن 18% من هؤلاء من حاملي الشهادات الجامعية، و10% من الفتيات. وتنطلق غالبية هذه العمليات من نقاط عديدة على طول الشريط الساحلي التونسي، يأتي في مقدمتها، جرجيس وصفاقس والمنستير، متجهين إلى جزيرة لمبدوزا الإيطالية.
كما تُعاني مصر من انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية أيضًا، لكن على مسارين: الأول، يتمثل في الهجرة البرية إلى دول الجوار خاصة ليبيا عن طريق السلوم، رغم التحذيرات التي وجهتها وزارة الخارجية بعدم السفر إلى ليبيا. وتُعتبر مسألة الحصول على تقديرٍ للأعداد أمرًا في غاية الصعوبة، لكن يمكن استخدام مؤشر حجم عمليات الضبط الأمني. ففي عام 2014 استطاعت قوات حرس الحدود المصرية إيقاف 14690 حالة محاولة عبور غير شرعي للحدود، وهو ما يعد رقمًا كبيرًا إذا ما قورن بدول أخرى.
أما الثاني، فينصرف إلى الهجرة عبر البحر المتوسط إلى الدول الأوروبية، خاصة إيطاليا واليونان، انطلاقًا من السواحل الشمالية، لا سيما من الإسكندرية، بحيث تؤدى غالبية الرحلات إلى غرق قوارب الهجرة مما يخلف أعدادًا كبيرة من القتلى والمفقودين.
والجدير بالذكر أن النسبة الأكبر من المهاجرين غير الشرعيين المصريين تأتي من المحافظات الفقيرة، لا سيما الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط، وهو ما يؤكد فرضية ارتباط الهجرة الشرعية بتزايد معدلات الفقر والبطالة.
كما تُعتبر الجزائر هى الأخرى مثالا على تزايد معدلات الجنوح نحو الهجرة، فقد أصبحت عمليات إيقاف قوات خفر السواحل لمحاولات هجرة غير شرعية، خاصة إلى فرنسا، متكررة بصورة شبه يومية، وكان آخرها في منتصف يناير 2015، حين قامت قوات خفر السواحل بإنقاذ 20 شخصًا على متن قارب يبعد 15 ميلا عن شواطئ ولاية مستغانم، حيث تنطلق غالبية رحلات الهجرة غير الشرعية في الجزائر من ساحل وهران.
وتُعد المغرب إحدى أكبر الدول المصدرة للهجرة غير الشرعية لأوروبا، خاصةً إسبانيا، لا سيما أنها تُمثل دولة استقبال وترانزيت للمهاجرين القادمين من الدول الإفريقية جنوب الصحراء خاصة من الكاميرون ومالي ونيجيريا قبل الانتقال عبر البحر إلى أوروبا. ووفقًا لتقديرات الحكومة المغربية، فإن عدد المهاجرين الذين يعيشون على أراضيها بشكل غير شرعي يتراوح بين 25 و40 ألفًا؛ حيث يتمركزون في مناطق الأحراش على جبل غوروغو في عددٍ من المخيمات.
نمطان رئيسيان:
كشفت مرحلة التحولات الثورية عن وجود نمطين رئيسيين لعمليات الهجرة غير الشرعية في المنطقة العربية، يتمثلان في:
1- الهجرة غير الشرعية الداخلية، والتي تحدث عبر انتشار نمط التحركات البشرية من بعض الدول التي تمر بظروف اقتصادية أو أمنية متردية إلى دول الجوار، وهو النمط المنتشر في انتقال العمالة المصرية، بشكل غير شرعي، عبر الحدود المصرية-الليبية بحثًا عن فرص عمل رغم حالة الانفلات الأمني الواضحة، وسيطرة التنظيمات المسلحة على مساحات واسعة من الأراضي الليبية. ويتكرر ذلك أيضًا في هجرة الليبيين بشكل غير شرعي إلى تونس بحثًا عن ملاذ آمن. كما تشهد اليمن أيضًا تحركات مشابهة إلى بعض دول الخليج.
2- الهجرة غير الشرعية الخارجية، والتي تتمثل بشكل أساسي في هجرة مواطني دول الشمال الإفريقي إلى دول أوروبا، في رحلات بحرية عبر المتوسط، وفي أغلب الأحوال تنتهي بفشل الرحلة وغرق المهاجرين فيما أصبح يُطلق عليها ظاهرة “قوارب أو رحلات الموت”، بحيث يكون العامل الاقتصادي هو الدافع الرئيسي لهذا النوع من الهجرة بهدف البحث عن حياة أفضل وفرص عمل أوفر، خاصة مع استمرار التدهور الاقتصادي وتدني مستويات النمو والتنمية على حد سواء.
سيناريوهات محتملة:
وفي إطار استقراء مستقبل ظاهرة الهجرة غير الشرعية، يبدو أنها لن تخرج عن سيناريوهين رئيسيين: السيناريو الأول، هو التصاعد المستمر، ويتمثل في تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية من الدول العربية، رغم فشل المحاولات، لا سيما مع استمرار وجود العوامل المحفزة لعمليات الهجرة، خاصة انخفاض معدلات التنمية وتزايد معدلات الفقر، وفقًا لمؤشر خط الفقر العالمي، إلى جانب افتقار غالبية الدول للاستقرار الأمني.
والسيناريو الثاني، هو البقاء على الوضع الحالي، حيث لا يمكن استبعاد هذا المسار بشكل تام، لا سيما في ظل وجود شبكة كبيرة لتنظيم تلك العمليات، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية، سواء في الدول المرسلة أو المستقبلة، على القضاء عليها بشكل نهائي، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تجمد الظاهرة وبقائها على حالها دون تزايد أو انخفاض.
وإجمالا، فإن الثورات العربية لم تسفر حتى الوقت الراهن عن نتائج تُذكر فيما يتعلق بتحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية، خاصة قضية العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة، وهو ما يُعد الدافع الحقيقي والمركزي لتزايد معدلات الهجرة غير الشرعية. لكن على الرغم من ذلك، لا تزال هناك إمكانية لتحجيم الظاهرة عبر اتخاذ حزمة من الإجراءات: أولها، العمل على معالجة الأسباب الموضوعية للهجرة، خاصة الاقتصادية والأمنية، في إطار استراتيجية متكاملة ومتعددة الأبعاد. وثانيها، توسيع دائرة التنسيق الأمني بين كلٍّ من الدول المرسلة والدول المستقبلة، على حد سواء، بهدف التضييق على شبكات الهجرة ومكافحتها، ومن ثم تحجيمها كخطوة أولى للقضاء عليها مستقبلا. وأخيرًا، ضرورة قيام الحكومات بدور أكبر عبر تكثيف حملات التوعية بأخطار الهجرة غير الشرعية.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية