بغداد – سلّط مثول وزيرة عراقية للمساءلة أمام نواب البرلمان مجدّدا الضوء على مدى تغلغل الفساد في مفاصل الدولة العراقية، وتحوّله إلى إرهاب مواز قاتل للناس بشكل مباشر.
وردّد الإعلام العراقي ووسائل التواصل الاجتماعي أصداء محاولة استجواب وزيرة الصحة العراقية عديلة حمود في البرلمان، وما تمّ الكشف عنه بالمناسبة من حقائق صادمة عن القطاع الصحّي العراقي وما ينخره من فساد جعل مختلف المؤسسات الصحيّة على شفا الإفلاس والانهيار.
وبسبب المحاصصة، وإصرار الأحزاب السياسية على تسمية الأشخاص الموالين لها في المواقع الحكومية، بغض النظر عن كفاءتهم ونزاهتهم، يتورط الجهاز التنفيذي للدولة العراقية في صناعة المزيد من صور الفشل في مجال تقديم الخدمات للمواطنين.
وتُعتبر ظاهرة الفساد في وزارة الصحة العراقية جزءا من الظاهرة الأكبر التي وضعت العراق في قمة الدول التي ينخرها الفساد في العالم.
والخطير، بحسب المتابعين للشأن العراقي، أن أجزاء من تلك الظاهرة تتعلق مباشرة بحياة المواطنين، كما هو حال الوضع الصحي والتموين والأمن. غير أن الفساد وقد اكتسب “شرعية” مبطنة من خلال نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية، أدى إلى أن يدخل العراق في دوامة داعش، التنظيم الإرهابي الذي ما كان في إمكانه أن يحتل ثلث الأراضي العراقية قبل ثلاث سنوات لولا أن صناع ماكنة الفساد قد وجدوا في صناعة أزمة مصيرية جديدة نوعا من الغطاء الذي يسمح لهم بالاستمرار في إدارة ماكنتهم.
ويقرّ مراقبون بأن كلّ شيء يجري في العراق قائم على الصفقات الفاسدة، بما فيها جلسات الاستجواب التي يقوم بها مجلس النواب بطريقة انتقائية يغلب عليها طابع الانتقام الحزبي. وربما كانت تلك الجلسات محاولة لتنفيس الأزمات والتضحية بجزء غير مهم من الطاقم الفاسد.
ويعبّر عراقيون عن يأسهم من الإصلاح بالقول إنّ مواجهة الفساد، الذي لم يترك منطقة إلا واخترقها، تتطلب إلغاء النظام القائم برمّته.
واستدعيت الوزيرة حمود إلى البرلمان، وتعرضت لضغط هائل من نواب واجهوها بالكثير من الأدلة والوثائق التي تكشف حالات فساد مالي وسوء إدارة في وزارة الصحة، فيما ردت المستجوبة نافية كل ما نسب إليها من تهم.
وتحتمي وزيرة الصحة بعدد كبير من نواب ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي لا يكاد اسمه يغيب كلما أثيرت قضية فساد في مؤسسة من مؤسسات الدولة، حيث يتهمه العراقيون بـ”مأسسة” الفساد خلال فترتي رئاسته للحكومة بين سنتي 2006 و2014.
وأبرز التهم التي وجهت لحمود، وأثارت الجدل في الأوساط الشعبية، تلك المتعلقة بصفقة استيراد أحذية طبية للعاملين في غرف العمليات الجراحية بكلفة تفوق نحو ثلاث مرات سعرها في الأسواق المحلية.
ويسخر العراقيون من تفاصيل هذه الصفقة، بالقول إن “سعر الحذاء الطبي الذي تعاقدت عليه وزارة الصحة، يفوق قيمة برميل البترول الذي يصدّره العراق”.
وزاد دفاع الوزيرة عن الصفقة من وقع الصدمة عندما ظهرت في مقابلة تلفزيونية لتؤكد أن الأحذية الطبية موضع الجدل تحمي من الصعقات الكهربائية، لتفتح باب سخرية جديدا لدى جمهور وسائل التواصل الاجتماعي من أحذية طبية تحمي من التيار الكهربائي الشحيح أصلا في البلاد.
وخلال جلسة الاستجواب، التي بدأت السبت، واستمرت حتى الأحد، استفسر النائب المستجوَب عواد العوادي الوزيرة عن سبب عدم توفير الأدوية للمؤسسات الصحية، حيث بلغت التغطية الكلية لـ22 مادة من أصل 31 مادة أقل من 20 بالمئة على الرغم من توفر عقود بعض هذه الأدوية منذ سنتين.
ولفت النائب إلى أن الوزيرة أوقفت إجراء الكثير من العمليات، لا سيما الولادات القيصرية في الكثير من مستشفيات بغداد والمحافظات لعدم توفر أدوية التخدير، الأمر الذي دفع بالمرضى إلى مراجعة المستشفيات الخاصّة وأثقل كاهل عوائلهم، مشيرا إلى وجود عقد لشراء حاوية نفايات بمبلغ 3 ملايين و400 ألف دولار وعقد آخر لشراء مادة الانترفيرون بقيمة 4 ملايين و500 ألف دولار بينما أكدت مدينة الطب في بغداد وجود فائض من هذه المادّة، بالإضافة إلى عقد شراء أثاث بمبلغ 23 مليونا و700 ألف دولار.
وشهدت المؤسسات الصحية الرسمية في العراق، خلال ولاية حمود، كوارث إنسانية على مستوى خدماتها المقدمة للمواطنين وتسببت في وفاة الكثيرين بسبب الإهمال والفساد وسوء الإدارة.
وفي أغسطس الماضي قضى 12 طفلا في مستشفى اليرموك التابع لوزارة الصحة في بغداد، بعد محاصرة حاضنة الخدج بنيران ودخان حريق ناتج عن تماسّ كهربائي في ردهة مجاورة. والشهر الماضي قضى 9 أطفال في مستشفى الكاظمية التعليمي التابع للوازرة أيضا، بسبب التقاطهم فايروسات قاتلة من ردهة الحروق المجاورة، كما تسبب المستشفى ذاته في نقل مرض سرطان الكلى إلى العشرات من الأشخاص، بسبب تلوث أصاب جهاز غسيل الكلى الذي يستخدمه بعض المرضى بشكل دوري.
وتطلب المستشفيات المتخصصة في التوليد والأمراض النسائية من المريضات أن يحضرن القُفازات الطبية المطلوبة للفحص من صيدليات أهلية بسبب عجز الوزارة عن توفيرها.
وتقول طبيبة شابة في مستشفى الشعلة الواقع في منطقة شعبية شديدة الفقر شمال غرب بغداد، إن زملاءها الأطباء يضطرون إلى وصف الأدوية الموجودة في مخازن المستشفى لمختلف الأمراض التي يشكو منها المراجعون، حتى إن كانت لا علاقة لها بالتشخيص الطبي، لأنهم ممنوعون من وصف أدوية ليست في حوزة المستشفى. وتضيف أن “قائمة الأدوية المتاحة للأطباء شحيحة جدا، ولا تغطي حاجة المرضى بسبب التقشف، لذلك نلجأ إلى نصح المرضى شفويا بضرورة الحصول على أدوية لازمة لعلاجهم من الصيدليات الأهلية”.
ويقول متخصصون في مجال الصحة إن أثر الفساد على المؤسسات الصحية الرسمية في البلاد، يمكن تلمّسه بسهولة من خلال الدخول إلى أي مستشفى حكومي، إذ تفوح روائح كريهة من مختلف الأروقة، ويلاحظ انعادم النظافة، فيما تكشف الأسرّة المهترئة وأجهزة الفحص والتحليل المتهالكة عن نقص حاد في التجهيزات.
وتُتهم وزيرة الصحة بإهدار المليارات من الدولارات المخصصة لهذا القطاع في صفقات مشبوهة، تستهدف الحصول على عمولات كبيرة من الشركات الموردة للمستلزمات الطبية.
ولا يعول العراقيون كثيرا على دور البرلمان في كشف الفاسدين في مؤسسات الدولة، وعادة ما يربطون الاستجوابات بتصفية حسابات حزبية وحتى بمصالح شخصية يسعى النواب المستجوِبون إلى تحقيقها.
ولم تُحدث أي حالة استجواب لوزير في البرلمان فرقا في أداء وزارة ما، حتى إذا نتجت عنها إقالة الوزير المستجوَب على غرار ما حدث لوزيري الدفاع والمالية السابقين خالد العبيدي وهوشيار زيباري في حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي.
العرب اللندنية