هل بقي هنالك شيء يجمع هذه الأمّة المسمّاة «عربية» غير التأوّهات؟ وهل التأوّه فعلٌ أم هو لفظُ أنفاسٍ أخيرة لجسدٍ هامدٍ لا يقوى على فعل أيّ شيء؟ هذه التساؤلات تعلو في الذهن مع انتشار صور البشاعة الجديدة القادمة من خان شيخون في سورية، حيث غاز النظام يخنق الأطفال.
لقد شاهد القاصي والداني كيف كانت بداية الانتفاضة السورية، حيث هبّ البشر بمئات الآلاف وانتظموا في الشوارع والساحات بمسيرات سلميّة بحثاً عن الحرّية التي صادرها نظام البعث المافيوزي. غير أنّ طبيعة النّظام ذي الإرث الدّموي ما كانت لتقبل فتح كوّة، ولو صغيرة، يستطيع منها الشعب أن يتنفّس شيئاً من الحريّة.
منذ البدء، وعلى خلفيّة ما جرى من انتفاضات في أقطار عربية أخرى، صرّح رأس النّظام المافيوزي السوري أنّ «سورية ليـــست تونس وسورية ليست مصر». لقد كان محقّاً في توصيفه هذا لأنّ سورية ليست هذه وتلك، بمعنى أنّه يعلم علم اليقين أنّ جـــوهر النظام السوري جوهر طائفي قبليّ مــــنذ الانقلاب البعثيّ الأوّل. ولأنّه كذلك، فإنّ أيّ بصـــيص لحريّة يعني نهاية حقبة طائفية وقبلية، ويعني نهاية النظام بحاله الراهنة.
ولمّا كان هذا العهد مهووساً بما اقترف سابقه من جرائم بحقّ البشر في سورية ويخشى عاقبة ذلك، فقد كان يعلم أن لا طريق أمامه سوى أن يكون «شرَّ خَلفٍ لشَرِّ سَلفٍ». وها نحن الآن بعد سنوات ستّ نرى أنّه موغل في هذه الجرائم حتّى النهاية.
هذه النكبة السورية النازفة منذ سنين قد كشفت على الملأ كلّ الزيف الوطني والقومي الذي تشبّعنا بشعاراته. فباستثناء الشعارات التليدة والبليدة عن العروبة لا يحرّك العربي ساكناً. قد يكون ذلك بسبب انكبابه على التعامل مع نكباته الخاصّة، وما أكثر النكبات في أقطار العرب. غير أنّ الحقيقة المرّة هي أنّ العربيّ في نهاية المطاف لم يخرج بعد من طوره القبليّ والطائفي نحو الطور الوطني. ولهذا تراه في هذا القطر أو ذاك يستنجد بالأجانب حينما تنزل به نازلة. فهو في قرارة ذاته لا يثق بالعربيّ الذي من طينته. إنّه يعرف حقيقة هذه الطينة، فهو منها.
هكذا انكشفت على الملأ هذه الأكذوبة المسمّاة عروبة. إنّ كلّ من لا يزال يجد في نفسه انتماء إلى هذه الأمّة، والحديث موجّه إلى الجميع من دون استثناء، مُلزم الآن وقبل فوات الأوان بأن ينظر في المرآة وبأن يجري حساباً مع النفس. إنّه ملزم بأن يسأل نفسه: من أنا ومن نحن، أين أنا وأين نحن، من كلّ ذلك؟
وهذا السؤال يجب أن يبدأ من البيت، من الأهل، من الجار، من الحارة، من العائلة، من القبيلة، من الطائفة، من البلدة، من البلد. والسؤال يتعلّق بالثقافة، بالسياسة، بالاجتماع. والسؤال يتعلّق بالفنون ويتعلّق بالشجون.
هل حقّاً، نحن العرب، نؤمن بالديموقراطية؟ وهل نحن مستعدّون أن نقبل بما تمليه هذه الديموقراطية من مدارك ومعاملات؟ وكيف تستقيم هذه الديموقراطية مع طبيعتنا التي لا تقبل التطبّع بكلّ هذه المدارك والقيم الكونية التي تتخطّى حدود الغاب. فما معنى أن تكون عربيّاً في هذا الأوان؟
إنّ كلّ بقعة صغيرة، أكانت قرية، أو بلدة، أو مدينة في ربوعنا العربية، هي ميكروكوسموس، أو عالم صغير، تنعكس فيه كلّ أمراضنا. فلينظر كلّ فرد منّا حوله، في أماكن تواجده، هل بوسعه بناء مجتمع صغير في بقعته الصغيرة يسير على هدي هذه المبادئ؟ وإذا كان لا يستطيع أن ينشئ مجتمعاً سليماً في بقعة صغيرة، فكيف السبيل إلى إصلاح شعب أو أمّة؟ وإذا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، ألسنا ملزمين بالبحث عن خريطة طريق أخرى للعيش على هذه الأرض؟
إنّه السؤال الأكبر الذي يتوجّب على كلّ فرد منّا أن يجيب عنه. والمسألة ليست لعبة، بل هي الخطوة الأولى على طريق البحث عن شفاء من مرضنا العضال. وما لم يحاول كلّ فرد منّا الإجابة عن هذه الأسئلة بصدق في قرارته، فلن تقوم لنا قائمة.
سلمان مصالحة
الحياة اللندنية