يطرح آلان كوبيرمان، أستاذ الشئون العامة المشارك في كلية ليندون جونسون للشئون العامة، جامعة تكساس، في مقال له في دورية “Foreign Affairs” عدد مارس/أبريل 2015 وجهة نظر مفادها أن فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها عبر تدخلها العسكري – تحت غطاء الناتو – في ليبيا قد أدي لنتائج عكسية.
ورأى كوبيرمان في المقال الذي حمل عنوان “هزيمة أوباما في ليبيا: كيف يمكن للتدخل حسن النية أن يقود إلى الفشل؟” أن الحالة الليبية لم تكن تحتمل تدخلا عسكريا، وذلك في ضوء نظرته الخاصة بأن ما حدث في ليبيا في فبراير 2011 لم يعد كونه تمرداً، كان القذافي على وشك النجاح في إخماده، وبأقل خسائر بشرية ممكنة.
كيف تحولت ليبيا إلى دولة فاشلة؟
يعمد كوبيرمان في هذا الجزء الأول من المقال إلى سرد أبعاد تطور الأزمات السياسية، والأمنية، والاقتصادية في ليبيا، والتي حدت بها إلى مستوى التدهور التي وصلت إليه حالياً.
فيشير إلى أنه بعد وصول حكومة ائتلاف معتدلة وعلمانية إلى السلطة في يوليو 2012، انزلقت ليبيا سريعاً نحو الهاوية. فلم يستمر أول رئيس وزراء منتخب، مصطفي أبو شاقور، لأقل من شهٍر واحدٍ في منصبه، ليصل عدد من تولوا رئاسة وزراء ليبيا إلى سبعة أشخاص، خلال أقل من أربع سنوات.
وفي ظل هيمنة الإسلاميين على أول برلمان، بعد الإطاحة بالقذافي، فشلت الحكومة في نزع سلاح عشرات الميليشيات التي تكونت خلال فترة تدخل الناتو في ليبيا، وخصوصاً الميليشيات الإسلامية، مما أدى إلى وقوع معارك دامية على النفوذ بين القبائل المتناحرة والقادة.
وفي أكتوبر 2013، أعلن انفصاليون في شرق ليبيا، حيث يتركز معظم النفط الليبي، تشكيل حكومة خاصة بهم، وتعرّض رئيس الوزراء الليبي في حينها، علي زيدان، للاختطاف والاحتجاز كرهينة. وعلى ضوء ذلك، أعلنت الولايات المتحدة، في ربيع 2014، تأجيل خطة لتدريب قوة مسلحة، قوامها بين 6000 و8000 جندي ليبي.
وبحلول مايو 2014، وصلت ليبيا إلى أخطر محطات مرحلتها الانتقالية، حيث سيطر اللواء المتمرد، خليفة حفتر، على القوات الجوية ليهاجم الميليشيات الإسلامية في بنغازي، ووسّع أهدافه لتشمل المجلس التشريعي ذا الهيمنة الإسلامية في طرابلس. وجاءت الانتخابات التشريعية في يونيو الماضي 2014 لتسجّل انخفاض نسب المشاركة من 1,7 مليون ناخب في الانتخابات السابقة إلى 630 ألف ناخب فقط، مما يشير إلى أن الشعب الليبي قد فقد إيمانه بالديمقراطية. وبعد الإعلان عن فوز الأحزاب العلمانية والقومية في هذه الانتخابات، رفض الإسلاميون قبول نتيجة الانتخابات، وكانت النتيجة تكون برلمانين متصارعين، يدّعي كل منهما أنه البرلمان الشرعي.
وعلى إثر ذلك، قامت الميليشيات الإسلامية المتمركزة في مصراتة، في يوليو 2014، بمهاجمة قوات حفتر في طرابلس، ونجحت في السيطرة عليها، بعد معركة دامت لستة أسابيع، وذلك في إطار تحالف عسكري سُمي بـ”فجر ليبيا”، لتتم إعادة إحياء البرلمان الليبي القديم – الذي كان للإسلاميين الغلبة فيه، وكان يُسمى المؤتمر الوطني العام – وتشكيل ما أطلقوا عليه “حكومة إنقاذ وطني”.
وفي أكتوبر، فر البرلمان المنتخب حديثاً، والذي يدعمه التحالف العسكري “كرامة ليبيا”، بقيادة حفتر، إلى مدينة طبرق بشرق ليبيا، حيث أسس حكومة مؤقتة منافسة، لتصبح هناك حكومتان متصارعتان، تتحكم كل منهما في جزء من الأراضي والميليشيات الليبية.
وتدهورت أوضاع حقوق الإنسان سريعاً في ليبيا، عقب سقوط القذافي، فقد ارتكب الثوار عشرات عمليات القتل الانتقامية، بالإضافة إلى التعذيب والاعتداء على الآلاف من المشتبه بهم بدعم القذافي، واحتجازهم قسرياً، حيث تم ترحيل 30 ألفا من سكان مدينة تاورغاء، والذين كان معظمهم سود اللون، بزعم أن بعضهم كانوا ممن أطلق عليهم مرتزقة. كذلك، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً كشف عن وجود نحو 93 حالة اعتداء على صحفيين ليبيين في الأشهر التسعة الأولى من عام 2014. وخلص التقرير إلى أن الاعتداءات المستمرة في شرقي ليبيا “تصل إلى جرائم حرب”. ونتيجة لذلك العنف المتفشي، تقدر الأمم المتحدة أن نحو 400 ألف ليبي قد فروا من منازلهم، بينما نزح 100 ألف ليبي خارج بلدهم.
وبعدما كانت تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة تُصنّف ليبيا على أنها أعلى مستوى للمعيشة في إفريقيا، انخفض هذا المستوى بشكل حاد، نتيجة الهبوط الاقتصادي الشديد، والذي يعود إلى انخفاض مستويات إنتاج النفط بشدة بسبب الصراع الممتد. فقبل الثورة، كانت ليبيا تنتج يومياً 1,65 مليون برميل نفط، وانخفضت تلك النسبة إلى صفر خلال فترة تدخل الناتو، ثم ارتفعت بعد ذلك لتصل إلى 85% من معدلها السابق. إلا أنه منذ استيلاء الانفصاليين على موانئ النفط الشرقية في أغسطس 2013، بلغ متوسط الإنتاج 30% من معدل ما قبل الثورة.
كيف عظّم تدخل الناتو في ليبيا من الخسائر البشرية؟
يحاول كوبيرمان في هذا الجزء من المقال، عن طريق الإحصاءات، إثبات أن تدخل الناتو في ليبيا هو المسئول عن زيادة أعداد القتلى– خاصة بين المدنيين – إلى المستوى الذي آلت إليه.
ويزعم أن التقارير الإعلامية قد بالغت في تقديرها لأعداد القتلى الليبيين – خاصة المدنيين – في الأيام الأولى للقتال، حيث وثّقت منظمة “هيومن رايتس واتش” 233 حالة وفاة فقط في الأيام الأولي للقتال، وليس 10 آلاف، مثلما أوردت قناة “العربية” الإخبارية. وفي مصراتة، ثالثة كبرى المدن الليبية، حيث تركزت بشدة المعارك الأولي، وجدت منظمة “هيومن رايتس واتش” أن من بين 949 مصابا في الأسابيع السبعة الأولي من الثورة، 30 من النساء والأطفال (أي نحو 3%)، مما يشير إلى أن قوات القذافي قد استهدفت المقاتلين بدقة.
ويشير كوبيرمان إلى أنه مع تدخل الناتو، كان العنف الليبي على وشك الانتهاء، فقد هزمت قوات القذافي الثوار، الذين بدأوا في الانسحاب إلى مدنهم. وبحلول منتصف شهر مارس 2011، كانت قوات الحكومة الليبية مستعدة لاستعادة آخر معاقل الثوار في بنغازي، لتنهي الصراع الذي استمر شهرا بخسائر وصلت إلى 1000 قتيل فقط. إلا حملة الناتو الجوية جاءت لتوقف هجوم القذافي، واستمرت الحرب، حتى تم قتل القذافي في 20 أكتوبر 2011، وسرعان ما سقط آخر بقايا النظام بعدها بثلاثة أيام. وبذلك، تكون حملة الناتو العسكرية قد تسببت في زيادة أمد الحرب من ستة أسابيع إلى أكثر من ثمانية أشهر، لتُخلّف مزيداً من الضحايا والمصابين.
تمدد رقعة الإرهاب بعد سقوط القذافي
يرى كوبيرمان أن تضخم تهديد الإرهابيين في ليبيا كان أحد تداعيات التدخل العسكري للناتو. فرغم أن القذافي دعّم الإرهاب منذ عقود، فإنه تحول بعد ذلك إلى حليف أمريكي ضد الإرهاب العالمي، وهو ما يعود إلى مواجهته تهديداً داخلياً من قبل الميليشيات التابعة للقاعدة.
ولكن، منذ تدخل الناتو في ليبيا، تحولت المدن الليبية إلى ملاذٍ آمنٍ للإرهاب، فظهرت الجماعات الإسلامية المتشددة، والتي قمعها القذافي سابقاً، ورفضت تلك الجماعات نزع السلاح بعد سقوط القذافي. وتقاتل تلك الميليشيات الإسلامية في ليبيا الآن للسيطرة على الدولة كاملة، وتحرز تقدماً في ذلك. فقد سيطرت تلك الميليشيات على قاعدة عسكرية سرية قرب طرابلس في أبريل 2014. وللمفارقة، تأسست تلك القاعدة على يد قوات العمليات الخاصة الأمريكية في صيف 2012 لتدريب قوات مكافحة الإرهاب الليبية.
ومن ناحية أخرى، أدى تدخل الناتو في ليبيا إلى هروب أفراد من المنتمين إلى قبيلة الطوارق إلى بلدهم، مالي، مع أسلحتهم ليبدءوا تمردهم الخاص. وبعد ذلك، استطاعت القوى الإسلامية المحلية، وتنظيم القاعدة في المغرب السيطرة على النصف الشمالي من مالي، وإعلان دولتهما المستقلة، لتصبح تلك المنطقة “أكبر مساحة يسيطر عليها متشددون إسلاميون في العالم”.
تفاقمت مشكلة الإرهاب مع وصول أسلحة ترسانة القذافي الضخمة إلي يد الإسلاميين المتشددين في أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يُقدّر عدد الأسلحة، الذي فُقد في ليبيا، بضعف الأسلحة التي فُقدت في الصومال، وأفغانستان، والعراق. وما يمثل مصدر أكبر للقلق هو نظم الدفاع الجوي المحمولة، والتي يسهل استخدامها لإسقاط كل من الطائرات المدنية والعسكرية.
النتائج العكسية لحملة الناتو في ليبيا
يدعي كوبيرمان أن حملة الناتو العسكرية أدت لنتائج عكسية أضرت بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا الصدد، تحدث عن ثلاث نتائج بالتحديد:
أولا- إعاقة جهود منع انتشار الأسلحة النووية: فبعد أن أوقف القذافي طوعاً عام 2003 برامجه النووية والكيميائية، تجرأت الولايات المتحدة على إسقاطه، بعد ثمانى سنوات، الأمر الذي أدى إلى تعقيد مهمة إقناع الدول الأخرى بالتخلي عن برامجها النووية، أو التراجع عنها، حيث ذكرت كوريا الشمالية أن “الأزمة الليبية تقدم درساً خطيراً للمجتمع الدولي”، وأن كوريا الشمالية لن تنصاع لنفس “التكتيك الأمريكي الهادف لنزع سلاح كوريا الشمالية”.
ثانيا- تأجيج العنف في سوريا: ففي مارس 2011، كانت الثورة السورية لا تزال غير عنيفة إلى حد كبير، وكان عدد ضحايا النظام السوري لا يزال محدوداً – مقارنة بالمعدلات التالية لتلك الفترة – إلا أنه بعد حملة الناتو على ليبيا، اتجه ثوار سوريا إلى العنف في صيف 2011، لربما كانوا يتوقعون تدخلاً مشابهاً.
ثالثا- استعداء روسيا: أعاق تدخل الناتو في ليبيا جهود تحقيق السلام في سوريا بسبب الاستعداء الشديد لروسيا، فقد أعلن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة – بعد موافقة روسيا – موافقته على إنشاء منطقة حظر جوي في ليبيا، وإجراءات أخرى لحماية المدنيين، ولكن الناتو تجاوز ذلك التفويض بالسعي لتغيير النظام. وقد أبدى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اعتراضه على ذلك، وأكد أن روسيا لن تسمح لمجلس الأمن بالموافقة على عمل مشابه في سوريا.
يقر كوبيرمان في نهاية مقاله بأن خطأ الولايات المتحدة في ليبيا لم يكن نقص جهود ما بعد التدخل، ولكنه كان قرار التدخل من البداية، لأن مثل هذه القرارات تؤدي- في الأغلب- إلى نتائج عكسية عبر تعزيز العنف، والإرهاب، وفشل الدولة.
ويرى أن الدرس الحقيقي من ليبيا هو أنه عندما تستهدف دولة متمردين على نطاق ضيق، يحتاج المجتمع الدولي للامتناع عن بدء حملة عسكرية، بحجة المساعدات الإنسانية، لتقديم الدعم للميليشيات، وأن يتم الاحتفاظ بخيار التدخل لدواع إنسانية لحالات نادرة، يتعرض فيها المدنيون للاستهداف بشكل مباشر، مثل حالة رواندا عام 1994.
آلان كوبيرمان
عرض: محمد محمود السيد
مجلة السياسة الدولية