منذ أن انتصرت إسرائيل سنة 1967، أصبحت الولايات المتحدة تنظر إليها بمنطق الرجل القوي، الذي يقلع شوكه بيديه، ويُعتمد عليه تماماً في توظيف مصالحها .. إنّها بمنزلة ” كش ملك” في رقعة الشطرنج، وليست مجرد بيدقاً طائشاً من شأنه أن يلعب دور الفدائي من أجل المراهنة على الفوز المؤكدْ .
في 17 مارس / آذار 2010، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما من شاشة فوكس نيوز : ” لا يوجد مشكلة بين أميركا وإسرائيل، ما بيننا روابط وديّة أكبر من أي اختلاف يحدث، الأصدقاء يختلفون أيضاً “، جاءت هذه التعويذة العاطفيّة بعد أن تلقى جون بايدن وقتذاك خيبة كبرى، حين جاء لكي يدفع بمسار المفاوضات إلى الأمام، فقابله الاحتلال الإسرائيلي بالمزيد من ابتلاع الأراضي بالمستوطنات .
عاش المخيال السياسي العربي هذه الأيام، ما عاشه في آذار 2010 من توقّع رومانسي منفلت ، باهتزاز العلاقات الأمريكيّة الإسرائيليّة على ضوء الخلاف المشابه حول الاتفاق الجاري فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، وما انجر عنه من مفاوضات عميقة تخصّ الولايات المتحدة من جهة، وتنوب عن المجتمع الدولي فيها من جهة أخرى ..
وعلى عادة الأمم التي تكتفي بالمشاهدة على طرفيْ الساحة ، انقسم العرب بين حالمٍ ملهم بتصدّع العلاقة الأميركيّة/ الإسرائيليّة، لتبرير توجهه السياسي بالرغبة في انتصار إيران على “العالم” كله، وما بين هوىً مشدوداً إلى نزعة كراهيّة وعدوانيّة، تمنّى معتنقوه أن يُنسف ذلك التفاوض ويكافئ بالرسوب، ولوكلّف الأمر عودة المياه الأميركيّة إلى الرسو” مجدداً” على ميناء إسرائيلي تقليدي الاستقبال والضيافة في آن.
وللتّاريخ في حيوات الأمم شواغل وشواغر، فما بين الفيّنة والأخرى يكون مزاحه مقصوداً لكي يعزّر بعض الأفهام العربيّة بمزيد من المماثلة والمطابقة، لئلا تقع في ذات المطب في كل مرة دون أن ترعوي من اجترار الخطأ نفسه ، فكما حصل للعرب في آذار/ مارس العام 2010 من ثقلٍ شاعري ألهب استقبالهم الحاشد للخيبة الأكبر، بدا أن هنالك ثلّة أخرى تنظر إلى 31 آذار / مارس 2015 فور انتهاء المهلة المزمعة من قبل مجموعة 5+1 التي تضمّ أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى ألمانيا من أجل الإبرام النهائي لنصه في “العشاء غير الأخير” ليوم 31 آذار / مارس من هذه السنة، بالمزاج عينه الذي رافق أبواقاً إعلاميّة في سنة 2010 .
وكعادة إسرائيل في كل مرة، التسرب إلى أي تسوية سياسيّة ولوكانت شكليّة فقط، تهدف إلى تخفيف العقوبات على إيران، ترجمه شعور نتنياهوالبائس شعبياً بأن ضرورة زيارته إلى أميركا، هي للجم ذلك المصير الذي ينعكس على إسرائيل في نهاية المطاف ، في حالة نجاح جهود التسويّة، مبدياً قلقه من أي تقارب أميركي / إيراني قد يسفر عن خطر وشيك تقوده إيران ضد إسرائيل ز
السيد جون كيري تقمّص دور أوباما في آذار 2010 تماماً، عندما صرح لمحطة ” ايه بي سي” بأن ” رئيس الوزراء الإسرائيلي موضع ترحيب “ ولم يكتفي بذلك، بل أضاف أيضاً : ” لم يفرج التاريخ عن علاقة أقرب مع إسرائيل على صعيد الأمن” . واضعاً مرةً أخرى حجر الزاوية الجديد/ القديم في مكانه، وقاطعاً أي تصوّر شعبوي بنجاعة الاتفاق النووي الإيراني فيما لونجح في تعكير الأجواء الإسرائيلية الأميركيّة .
الثابت الأكثر استدراراً لليقين والاستقرار هو أن المأزق الحقيقي الذي تعيشه إسرائيل دائماً، ليس متعلقاً بطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة على الإطلاق، إذّ أن العلاقة بينهما مؤسساتيّة خالصة ، تعمل على تعهدها “اللجنة الأمريكيّة الإسرائيليّة للشؤون العامة ” المعروفة اختصاراً بـ ” الإيباك”، تعقد مؤتمراً سنوياً يحضره كبار الساسة من الطرفين . إضافة إلى منظمة ” أبناء العهد” ( بناي بريث) التي تعنى بضبط الاتصال بين الشخصيات الإسرائيليّة والأمريكيّة على حد سواء ، وتسعى إلى تعقب الأشخاص والكتل التي تُوصف بالعداء لإسرائيل . وهنالك أيضاً ” مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” التي تستغل النزعة الدينيّة لدى الأمريكيين، من أجل خلق توليفة دائمة تعتضد بالدين، وتوطد العلاقة الثيولوجيّة بين المسيحيّة واليهوديّة في إطار ثقافويْ وجمعوي . ولدينا ما يعرف بـ” مؤتمر الرؤساء ” يضم 51 منظمة يهوديّة متصهينة يتولّى تجذير التعاريف الفقهيّة لقضايا اليهود في أميركا منذ الخمسينيّات إلى يوم الناس هذا . وأخيراً وليس آخراً ثمّة عصب خطير للغاية تُوكل إليه مهام أشد خطورةً على الوعي والدعاية من غيرها، يُعرف بـ” لجنة الدقة في أخبار الشرق الأوسط في أميركا ” يطلق عليها اختصاراً بـ (camera ) وهي مؤسسة إعلاميّة / سياسيّة ترصد كل ما يطرأ على الشرق الأوسط وإسرائيل من جانب التناول الإعلامي الأميركي، وطبيعة التعاطي مع مجريات التغطيّة استناداً إلى تطويب تلك التغطيات لصالح الرواية الإسرائيليّة المنحازة .
المأزق الحقيقي لإسرائيل هو”مأزق إيديولوجي” كما وصف كارل بوبر في سياق آخر، ذلك أن التبجّح الذي تبدوبه الآلة الإسرائيليّة بمختلف أنواعها ورغم ثقلها وتنظيمها، يجعلها على نحوغريب جبلته الطبيعة العدوانيّة بحتميات تاريخيّة أقوى وأشد، تعاود الإخفاق في حماية ” الشخصيّة الصهيونيّة” من الاهتزاز والتضعضع، وتفشل حتى في ترميم ذلك التآكل الذي ينسف بالعقيدة الصهيونيّة نفسياً، وقد تناولناه بالتفصيل الفكري هنا ودللنا عليه بشكل مستفيض وواسع .
جاءت تصاريح نتنياهوا الأخيرة في فرنسا في أعقاب حادثة ” شارلي إيبدو” وفي كوبنهاجن أيضاً، لتأكد طبيعة الأزمة المفصليّة التي تعيشها إسرائيل من الداخل ولا تفصح عنها، وقد سمعنا كيف أنه يدعواليهود كلما حلّ في منطقة اُستهدفوا فيها مثل فرنسا وكوبنهاجن إلى التقاطر من جديد إلى إسرائيل، مستخدماً أدوات ترفيهيّة وتعبويّة لجبر أي تصور مطنطن بالهزيمة لأجل دعم إسرائيل بشرياً، متناسياً أن الكيان الاصطناعي ما لم يتحقق في مناخ من التقبل والانصهار والاندماج، سوف يفشل مهما توحّدت مكوناته شكلياً بواسطة الكذب الإعلامي والدعاية المزيفة، ولا شيء يغمز ذلك التزوير والإنبراء على المعلوم المشوّه من قناةٍ، سوى اليهود أنفسهم ممّن لم يتقبلوا استعاضت أوطان بديلة بوطن أصلي في أوربا .
إنّ خيار المقاومة يعمق الهوة أكثر فأكثر داخل هذا الكيان، الذي سيستقر ويستمر في حالة واحدة فقط ؛ إذا صدأت البنادق أواستحالة إلى عروض خشبيّة في الملاهي فقط .
ضيف حمزة ضيف
راي اليوم