الربيع المفقود‮.. ‬سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط

الربيع المفقود‮.. ‬سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط

99

لا‮ ‬يزال هناك اهتمام كبير داخل الأوساط البحثية والأكاديمية الغربية، وفي القلب منها الأمريكية، بالتغيرات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬عقب ثورات عام‮ ‬2011،‮ ‬وتطرح تساؤلا يسعون للإجابة عليه،‮ ‬مفاده‮: ‬كيف فشل الغرب في توقع تلك التغيرات التي حدثت في العالم، وكيفية مواجهتها؟‮. ‬

وفي هذا السياق،‮ ‬يأتي كتاب وليد فاريز، مستشار الكونجرس الأمريكي في شئون مكافحة الإرهاب، الذي يصف فيه سياسة الولايات المتحدة إزاء تلك التغيرات بـ‮ “‬التردد الشديد‮”‬،‮ ‬إذ كانت جهودها مشتتة في مكافحة الإرهاب بما أدي إلي ارتكابها العديد من الأخطاء الاستراتيجية التي كلفتها الكثير‮. ‬ففي ليبيا،‮ ‬لم تتنبأ السياسة الخارجية الأمريكية بأن هناك انفجارات قادمة، ولم تواجه تحديات الانتقال السياسي،‮ ‬ولم تحدد مع أي جانب يجب أن تقف، فضلا عن أنها فشلت في عزل الجماعات الجهادية علي مستوي العالم‮.‬

ويوضح الكاتب من خلال كتابه التداعيات الناتجة عن التوترات التي وقعت في الشرق الأوسط منذ عام‮ ‬2011،‮ ‬ويفترض أن ثمة خللا رئيسيا سيصيب السياسات الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬إذا لم تحدث تغيرات في الاستراتيجيات والسياسات الأمريكية لمواجهة التغييرات عالميا،‮ ‬وفي منطقة الشرق الأوسط علي وجه الخصوص‮.‬

مؤشرات قدوم‮ “‬الربيع العربي‮”:‬

يعد فاريز من القلائل الذين توقعوا قدوم ثورات الربيع العربي، وذلك في كتابه الذي صدر عام‮ ‬2010‮ ‬بعنوان‮ “‬الثورة القادمة‮”.‬ وفي كتابه الأخير،‮ ‬يشير إلي أنه كانت هناك مؤشرات علي اقتراب حدوث ثورات الربيع العربي، والتي لم تتنبأ بها الإدارة الأمريكية‮. ‬يتمثل المؤشر الأول في بدايات صعود المجتمع المدني في دول منطقة الشرق الأوسط في التسعينيات من القرن المنصرم، والذي بدأ بالتركيز علي مشكلات الأقليات المهمشة الدينية والعرقية في الإقليم‮. ‬حيث‮ ‬يلفت الكاتب إلي أنه كانت هناك أقليات تتحرك ضد الأنظمة المستبدة، كما كانت هناك مؤشرات،‮ ‬ولو بسيطة،‮ ‬علي مجتمع آخر مكبوت كالمرأة والشباب‮. ‬وقد كان انتشار التكنولوجيا والإنترنت، طبقا للكاتب، هي العامل الأساسي في ظهور تلك المجتمعات،‮ ‬حيث أتاحت الفرصة لهم للتعبير عن أفكارهم بحرية‮.‬

أما المؤشر الثاني،‮ ‬الذي يرصده الكاتب،‮ ‬فقد تمثل في ثورة الأرز في لبنان عام‮ ‬2005،‮ ‬والثورة الخضراء في إيران، حيث تظاهر ما يقرب من‮ ‬1‭.‬8‮ ‬مليون مواطن في شوارع بيروت بشكل سلمي، ومن فئات مختلفة، ضمت العديد من النساء، ومثلت العديد من اللغات، إلا أن هدفها كان واحدا،‮ ‬وهو انسحاب القوات السورية من لبنان‮.‬ أما في الثورة الخضراء في إيران،‮ ‬فقد تظاهر ما يقرب من مليوني مواطن في الشوارع،‮ ‬60٪‮ ‬منهم تقل أعمارهم عن‮ ‬20‮ ‬عاما، وثلثهم كان من السيدات‮.‬ وبالطبع،‮ ‬فقد تم تفريق تلك المظاهرات بعد نزول قوات الحرس الثوري الإيراني للشوارع،‮ ‬إلا أن المؤشر كان واضحا بأن الشباب يتحرك علي الأرض،‮ ‬ويستخدم التكنولوجيا الحديثة للحشد والتجمع ضد النظم السياسية‮.‬

ويشير الكاتب إلي أنه في منتصف عام‮ ‬2010،‮ ‬كانت ملامح الربيع العربي تلوح في الأفق، وكان الشباب فقط ينتظرون الفرصة المناسبة‮. ‬ففي مصر،‮ ‬علي سبيل المثال،‮ ‬بدأت بعض البوادر تظهر حينما نظم الطلاب الأقباط مظاهرة في القاهرة تنديدا بتفجير كنيستهم، وهو ما دفع الشباب‮ ‬غير الأقباط إلي البدء في تظاهراتهم للتعبير عن آرائهم،‮ ‬وتزايد الأمر بعد ذلك من خلال صفحات الفيسبوك لتنظيم مظاهرات بالآلاف في ميدان التحرير‮.‬

ويؤكد فاريز أنه حينما بدأت تلك الموجات الثورية في تونس،‮ ‬ومصر،‮ ‬وليبيا،‮ ‬وسوريا، كانت هناك لحظة،‮ ‬لو كان لدي الولايات المتحدة فيها القيادة الصحيحة،‮ ‬أو القيادة التي تريد التصرف، لكانت أيدت مباشرة مطالب الحرية،‮ ‬ودعمت المجتمع المدني الثائر ضد النظم المستبدة‮.‬

اختيارات واشنطن الخاطئة‮:‬

يشير الكاتب إلي أن الآراء السائدة داخل البيت الأبيض في ذلك الوقت رجحت ضرورة الانتظار لحين رؤية ما ستئول إليه الأوضاع‮.‬ إلا أن الوضع تغير عندما قرر الإخوان المسلمون النزول للمشاركة في المظاهرات‮. ‬وهنا، كما يشير الكاتب، تغير الخطاب الأمريكي رغبة في تأمين مصالح الولايات المتحدة مع القيادة المستقبلية‮.‬

وقد تكرر السيناريو نفسه في ليبيا وسوريا،‮ ‬حيث تحول الموقف سريعا إلي حرب أهلية نتيجة حسابات خاطئة مرة أخري من جانب الإدارة الأمريكية‮. ‬ففي ليبيا،‮ ‬اندلعت المظاهرات ضد القذافي من الطلبة،‮ ‬والقضاة،‮ ‬والدبلوماسيين،‮ ‬بجانب الميليشيات الجهادية، إلا أن الإدارة الأمريكية،‮ ‬وكذلك أعضاء الكونجرس لم يفرقوا بينهم ووضعوهم كلهم في سلة واحدة‮.‬ وبالتالي حينما هزمت قوات القذافي بسهولة،‮ ‬استطاعت الميليشيات السلفية الجهادية السيطرة علي الجزء الشرقي من ليبيا،‮ ‬لأنها كانت القوة الأكثر تنظيما علي الأرض، ثم توسعت بعد ذلك بما يهدد المصالح الأمريكية‮. ‬كذلك،‮ ‬أسهم التأخر في توجيه ضربة عسكرية لقوات الأسد في سوريا في دفع الأمور لمزيد من التعقيد والتوسع،‮ ‬بحيث إذا قررت الولايات المتحدة الآن توجيه ضربة عسكرية لسوريا،‮ ‬فإنها ستواجه أربعة أنظمة‮: ‬نظام الأسد، وحزب الله، وإيران، والعراق‮.‬

مساران للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط‮:‬

منذ‮ ‬2009،‮ ‬بدا أن الإدارة الأمريكية يجب أن تأخذ أحد المسارين في سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط‮. ‬المسار الأول‮ “‬من المغرب إلي‮ ‬غزة‮”‬،‮ ‬وذلك بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين،‮ ‬حيث استطاعت النخبة الأكاديمية والمستشارون إقناع صانعي القرار الأمريكيين بأن جماعة الإخوان تمثل قوة‮ “‬تغيير‮”. ‬أما المسار الثاني والأخير،‮ ‬فهو‮ “‬من بيروت إلي سوريا إلي العراق إلي إيران‮”‬،‮ ‬وذلك في حالة تغير سلوك القيادة السياسية الإيرانية‮.‬ وانطلاقا من فرضية أنه إذا استطاعت الإدارة الأمريكية الوصول لاتفاق مع النظام الإيراني،‮ ‬فإن الأخير سيضمن استقرار إيران،‮ ‬والعراق،‮ ‬وسوريا،‮ ‬ولبنان‮.‬

وقد أشار الكاتب إلي أن مؤشرات ذلك المسار بدت واضحة منذ حملة أوباما الانتخابية في‮ ‬2008،‮ ‬ثم خطابه في جامعة القاهرة في‮ ‬2009،‮ ‬فضلا عن خطاب أرسل لآية الله خامنئي،‮ ‬يؤكد نية الولايات المتحدة الدخول في حوار مع القيادة الإيرانية‮. ‬فقد كان هناك اتجاه في الإدارة الأمريكية لمشاركة الإخوان المسلمين،‮ ‬حتي قبل وصولهم للسلطة، واستئناف العلاقات والحوار مع الإيرانيين‮.‬

صراع في الشرق الأوسط‮:‬

يؤكد فاريز،‮ ‬في خلاصة كتابه،‮ ‬أن الإقليم الآن يشهد صراعا بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين المحافظين والليبراليين‮. ‬فتيار الإسلام السياسي يسعي إلي السيطرة علي المنطقة‮. ‬وفي المقابل،‮ ‬هناك شبكة متنوعة من منظمات المجتمع المدني،‮ ‬والأقليات،‮ ‬والعلمانيين،‮ ‬والسيدات يكافحون من أجل تحقيق الديمقراطية‮. ‬لذا،‮ ‬لو استمرت الولايات المتحدة في دعمها للإسلاميين، فإنهم، أي الإسلاميين، سيقاومون الإصلاح،‮ ‬وستواجه المجتمعات المدنية أوقاتا عصيبة في تنفيذ التغيير والتقدم‮.‬ أما في حال ما أعطت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون دعمهما للمجتمعات المدنية، فإن ثقافة الإصلاح ستترسخ في الإقليم‮. ‬

وأوضح أن المجتمعات المدنية في النهاية ستتمكن من تحويل ميزان القوي لمصلحتها‮. ‬ففي مصر،‮ ‬وتونس،‮ ‬وليبيا،‮ ‬يتقدم التيار العلماني للأمام، وكذلك تنمو المعارضة ضد آية الله ونظامه‮. ‬وقد توقع الكاتب قدوم ربيع آخر في الشرق الأوسط،‮ ‬بدلا من هذا الربيع المفقود كما سماه، وأن الإدارة الأمريكية يجب أن تكون مستعدة له هذه المرة‮.‬

وليد فاريز

Walid Phares,The Lost Spring: U.S.Policy in the Middle East and Catastrophes to Avoid, (New York: Palgrave Macmillan, 2014)

عرض: باسم راشد

مجلة السياسة الدولية