في بداية عام 2015 وبعد 35 عامًا من العزلة، تشير عدّة عوامل إلى إعادة إدماج محتملة لإيران داخل المجتمع الدولي، وعلى الرغم من تأجيل تسوية الأزمة النووية، تستمرّ المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية ومجموعة الـ 5 + 1. وفي الوقت نفسه، تحارب إيران وحلفاؤها الشيعة تنظيم الدولة الإسلامية إلى جانب التحالف الّذي تقوده الولايات المتّحدة الأمريكية.
وتقدّم إيران مساعيها الحميدة لمقاتلة القاعدة في شبه الجزيرة العربية في اليمن، كما اقترحت يوم 1 فبراير 2015 مساعدة الاتّحاد الإفريقي في مواجهة خطر بوكو حرام.
أمّا الدول الغربية فتحافظ على الأبواب مفتوحة؛ إذ تستمرّ إدارة باراك أوباما في سياسة مدّ اليد إلى الإيرانيين، وتهدّد باستخدام الفيتو الرئاسي ضدّ العقوبات الجديدة الّتي قد يفرضها الكونغرس، أمّا العواصم الأوروبية فتتطلّع نحو الفرص الاقتصادية الّتي تسمح بإعادة فتح السوق الإيرانية، وقد بدأت لندن المصالحة مع إيران؛ إذ عنونت صحيفة ذي جارديان البريطانية مؤخرًا مقالًا بعنوان: “ماذا ننتظر لنعوض تحالفنا مع المملكة العربية السعودية بتحالف مع إيران؟“. ولا يتردّد المراقبون الغربيون في الحديث عن عودة إيران.
ما هي هذه العقبات؟
ورغم ذلك، لا يزال تطبيع العلاقات الإيرانية الغربية الّذي أعلنه البعض ويتطلّع إليه البعض الآخر يواجه عقبات كبيرة: العقبات حول كيفية حلّ الأزمة النووية الإيرانية، والعقبات الّتي تمنع طهران والحكومات الغربية من إضفاء طابع رسمي حول تحالفهم في مكافحة داعش، على الرغم من التعاون الفعلي في المشهدين السوري والعراقي.
ما هي هذه العقبات؟ لا تكفي معارضة الكونغرس أو معارضة الراديكاليين الإيرانيين ولا الاختلافات التقنية حول عدد الطاردات المركزية ولا الشقاقات العسكرية حول كيفية محاربة داعش ولا الخلافات الإيديولوجية -العوامل الّتي يركّز عليها المراقبون- لتفسير هذا الانسداد؛ إذ إنّ العقبة الحقيقية الّتي تواجه المفاوضات النووية وتحول دون إضفاء طابع رسمي على التعاون المناهض لداعش ومن ثمّ التقارب المحتمل مع نظام الملالي ذات طابع جيوسياسي أي على وجه التحديد، العامل الرئيس يقوم على أهداف للسياسة الخارجية الإيرانية وآثارها على تكوين قوّة إقليمية.
محوران مهمّان
تقوم السياسة الخارجية الإيرانية الّتي غالبًا ما يتمّ الخوض فيها ونادرًا ما يتمّ تحديدها على محورين أساسيين: ضمان استقلال إيران وحماية النظام الإسلامي من جهة، وبناء مجال تأثير حام حول إيران. ولكن، للسعي إلى تحقيق هذين الهدفين آثار كبيرة على الملفّ النووي الإيراني وعلى الملفّ العراقي – السوري على حدّ سواء.
وتخضع السياسة الإيرانية في بلاد ما بين النهرين إلى هذه الضرورات الاستراتيجية؛ إذ بالنسبة لإيران لا تستجيب مكافحة داعش فقط إلى الاعتبارات الطائفية والرغبة في حماية الأماكن الشيعية المقدّسة، فهدفها يكمن في الحفاظ على التأثير الإيراني على العراق وسوريا ولبنان: العناصر الرئيسة للنظام الاستراتيجي الإقليمي شيّدت بصبر منذ بداية عام 1990، والحفاظ على محور طهران – بغداد – دمشق – بيروت هو بكلّ بساطة مسألة جيوسياسية لبقاء الملالي والحرس الثوري على قيد الحياة.
وانهيار “الهلال الشيعي” يعني العودة إلى العزلة الدبلوماسية والاستراتيجية بعد الحرب مع العراق في عهد صدام (حرب الثمانية أعوام 1980 – 1988) لتظهر إيران أكثر من أيّ وقت مضى الدولة الشيعية والفارسية الوحيدة في المنطقة ذات الأغلبية السنية والعربية.
وعلى الرغم من كلّ ما يقال حول الجوانب التقنية، يستجيب البرنامج النووي الإيراني أيضًا إلى النوع نفسه من الهواجس الجيوسياسية؛ إذ يجب الفهم بأنّ النووي ليس غاية بل وسيلة في خدمة الهدفين الاستراتيجيين: حماية النظام وتعزيز نفوذه الإقليمي. ويدعم الحصول على الطاقة النووية هذه المتطلّبات، من خلال تقديم أمرين لطهران: أوّلًا، تأمين حياة يضمن بقاء النظام واستقلال البلاد. وثانيًا، مصدر هيبة يسمح بتطوير قبّة حامية حول إيران وحلفائها.
ومن هذا المنطلق، أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني يوم 24 نوفمبر 2014 إلى أنّ المفاوضات “لا تقتصر على مسألة الطاردات المركزية“؛ بل ترتكز في المقام الأوّل على عوامل أوسع من “الإرادة” و”القوّة“. باختصار، سواء على الجبهة المعادية لداعش أو حول طاولة المفاوضات في فيينا، تسعى إيران إلى ضمان استقلالها والتأكيد على وضع قوّتها الإقليمية. وعلى هاتين الرقعتين، يريد الملالي والحرس الثوري إيران مستقلّة وقوية في محيطها الإقليمي بما يضمن تعزيز مصالحها. هذه هي شروط المساومة الجيوسياسية المقترحة من قبل الإيرانيين.
فكرة واحدة تسيطر على بعض الدبلوماسيين: جلب المتاعب الإيرانية إلى المجتمع الدولي
تساهم الطموحات الإيرانية الّتي يراها البعض فلكية ويراها البعض الآخر مقبولة في عرقلة حلّ الأزمات العراقية – السورية والملفّ النووي وتباطؤ تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع طهران بشكل كبير، رغم أنّ هذه الطموحات الاستراتيجية -الّتي نادرًا ما يتمّ نقاشها من قبل المتخصصين ويتهرّب منها صانعو السياسات بمهارة- في قلب النزاع بين الثيوقراطية الإيرانية وبقية المجتمع الدولي، ومن المؤكّد أن المطالب الإيرانية تعقّد المفاوضات مع الدول الغربية، سواء فيما يتعلّق بالملف النووي أو بالملّف العراقي – السوري.
ومع ذلك يمكن للأمريكان والأوروبيين بعد 35 عامًا من “الحرب الباردة” إيجاد سبيل لفتح أذرعهم إلى الابن الضال الإيراني، وينظرون في بعض المطالب الضخمة؛ فبعض الدبلوماسيين تسطير عليهم فكرة واحدة: جلب المتاعب الإيرانية إلى المجتمع الأممي، ووضع حدّ لثلاثة عقود من “المشاحنات العقيمة“، وتفكيرهم بسيط إن لم يكن الأبسط: فعلنا ذلك مع كوبا فلمَ لا مع إيران؟
معارضة “إسرائيل” ومملكات النفط العربية
أمّا العقبة الحقيقة، فتتمثل في المعارضة القاطعة من القوى الإقليمية الأخرى لأي شكل من أشكال التقارب بين الدول الغربية والجمهورية الإسلامية وخاصة “إسرائيل” والممالك النفطية العربية؛ إذ تخشى هذه الأطراف من ألّا تكون استعادة العلاقات الإيرانية الغربية في صالحها، وتخشى من ألاّ تجعل إيران من حقوقها في المجال النووي أساسًا لهيمنتها الإقليمية، وتخشى من استفادة إيران من دورها في مكافحة داعش لتصبح من جديد “حرس الخليج” كما كانت سابقًا أثناء حكم الشاه الأخير “حرس الخليج“، باختصار، تخشى أن تسعى إيران إلى الجمع بين الفوائد الّتي قد تحصدها من الملفين من أجل انتزاع إعادة تقييم لدورها على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية. وهذه المخاوف، وليس حيازة السلاح النووي نفسه، ما يدفع الوزير الأوّل الإسرائيلي للتنديد بما وصفه “صفقة القرن” الّتي يريد شركاؤه الأوربيون والأمريكيون التوصّل إليها مع إيران، حسب رأيه. وتغذّي هذه المخاوف انعدام الثقة المتزايد لممالك النفط في سياسة إدارة أوباما.
ذوبان الجليد في العلاقات بين إيران والغرب يؤدي بالتأكيد إلى إعادة تشكيل جيوسياسية كبرى
في مواجهة معارضة حلفائها الإسرائيليين والعرب، اختارت الدول الغربية حتّى الآن اتّخاذ موقف حذر؛ فالجميع يعلم أن منطق اللعبة الإقليمية هو لعبة محصلتها صفر: ما يكسبه البعض، يخسره البعض الآخر. والجميع يدرك أن إعادة تقييم العلاقات مع إيران من شأنه أن يؤدّي تلقائيًا إلى تراجع نسبي في العلاقات مع القوى الإقليمية الأخرى، وبالتالي ذوبان الجليد في العلاقات بين إيران والغرب، يؤدّي بالتأكيد إلى إعادة تشكيل جيوسياسية كبرى، ومراجعة الوضع الراهن تؤدي إلى تفاقم خطوط التمزّق السياسية (الأنظمة الملكية ضدّ الجمهوريات) والعرقية (الفرس ضدّ العرب) والدينية (الشيعة ضدّ السنة). وتماطل الدول الغربية الواضحة تمامًا فيما يتعلّق بتحديّات إعادة إدماج إيران وتعالج الظواهر وتجمع المتناقضات. ولا تتردّد؛ لأنّها تدرك أنّ إعادة الهيكلة الّتي تلوح في الأفق، ستكون معقّدة ومحفوفة بالمخاطر فيما يخصّ التوازن الإقليمي، وأيضًا النظام الدولي. ومع ذلك، سيأتي وقت الاختيار.
ديبلو واب – التقرير