ثمة الكثير من المفارقة في تزامن تصاعد حدة العنف في أفغانستان مع وفاة زبيغنيو بريجنسكي، محارب الحرب الباردة المناهض لروسيا، ومهندس السياسة الأميركية التي استندت إلى دعم الجهاديين في ذلك البلد من أجل جعل الاتحاد السوفياتي “ينزف”.
يوم السبت الذي صادف أول أيام شهر رمضان، لقي 18 شخصاً مصرعهم في تفجير انتحاري نُفذ بالقرب من قاعدة عسكرية في مقاطعة خوست الأفغانية. وفي الوقت نفسه، ذُكر أن هجمات شنها متشددون على قوات الأمن في مقاطعة بادغيس الأفغانية أسفرت عن مصرع 36 شخصاً وإصابة عدد كبير آخر. ويوم الجمعة التالي، أسفر انفجار آخر عن مقتل عشرة مدنيين في محافظة هيرات.
كان العام 2017 عاماً دموياً بامتياز في أفغانستان؛ حيث أبلغت بعثة الأمم المتحدة للإغاثة عن مقتل أو إصابة أكثر من 2.100 مدني في الفترة ما بين كانون الثاني (يناير) وآذار (مارس).
لكن أحداً لم يأتِ على ذكر أي من هذه الأمور عندما شرعت كلمات المدائح والتأبين لبريجنسكي بالتدفق. وقال باراك أوباما: “كنتُ واحداً من رؤساء عدة استفادوا من حكمته ومشورته”.
كما أهال الرئيسان السابقان؛ جورج بوش الأب وجيمي كارتر، مديحاً سخياً على السياسي الراحل أيضاً. ولكن، في حين نتوجه بتعازينا الحارة إلى أسرة بريجنسكي وأصدقائه في هذا الوقت الصعب، فإن أي تقييم موضوعي لما حققه “زبيغ” حقاً كمستشار للأمن القومي الأميركي، سوف يخلص إلى أن تأثيره كان كارثياً -وليس بالنسبة للشعب الأفغاني فحسب، وإنما بالنسبة للعالم ككل. وببساطة؛ كان العالم ليكون الآن مكاناً أكثر أماناً بكثير لو أن بريجنسكي استخدم مهاراته الفكرية الكبيرة في مساع أخرى غير الشتغال بالسياسة العالمية.
كان موطن هوس “زبيغ” في أواخر السبعينيات هو إعطاء الاتحاد السوفياتي فيتنامه الخاصة. وعندما عُيِّن مستشاراً للرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي في العام 1977، وجد بريجنسكي نفسه في خلاف شديد مع وزير الخارجية في ذلك الحين، سايروس فانس، الذي كان رجل سلام وأراد بإخلاص تعزيز حالة الانفراج مع موسكو.
كانت استراتيجية بريجنسكي المناهضة للاتحاد السوفياتي تتكون من شقين: أولاً، العمل بقوة على تعزيز قضية حقوق الإنسان، أو ما تدعى “السلة الثالثة” لاتفاقيات هلسنكي للعام 1975، كوسيلة لزعزعة استقرار الكتلة الشرقية.
عن ذلك، يقول جيريمي إساكس وتايلو داونينغ في كتابهما، “الحرب الباردة”: “أدرك بريجنسكي الميزة السياسية التي يجب استخلاصها من قضية حقوق الإنسان، لأنها تضع ضغوطاً على الاتحاد السوفياتي وتحشد المعارضة ضد موسكو”. لكن قدراً كبيراً من النفاق كان قيد العرض هنا؛ لأن “زبيغ” كان سعيداً تماماً بالعمل مع حكومات كانت سجلاتها في حقوق الإنسان أكثر سوءاً بكثير من سجل الاتحاد السوفياتي، من أجل تحقيق أهدافه.
أما الشق الثاني من استراتيجيته، فقام على محاولة إغواء الكرملين ودفعه إلى إرسال جنود إلى أفغانستان.
حتى نفهم كيف أصبحت أفغانستان جبهة جديدة حاسمة في الحرب الباردة، يجب أن نعود وراء إلى صيف العام 1973. ففي ذلك العام، أطيح بالملك محمد ظاهر شاه، الذي حكم البلد منذ العام 1933، على يد ابن عمه محمد داود خان بمساعدة من الشيوعيين الأفغان. ومع ذلك، واصل داود سياسة بلده غير المنحازة، وأراد أن يقول على سبيل الإيضاح أنه كان “مستعداً لإشعال سيجاره الأميركي بعود ثقاب روسي”.
مع ذلك، كانت الولايات المتحدة تعمل بلا كلل على خطب ود الحكومة في كابول وإغرائها بعروض المساعدات السخية. وقام داود بحظر حزب الشعب الشيوعي الديمقراطي الأفغاني وطرد ضباط الجيش الذين تلقوا التدريب في الاتحاد السوفياتي. وكانت النتيجة ما سمي “ثورة ساور” (ثورة أبريل)، التي جلبت المؤيد للسوفيات، نور محمد تراقي، إلى سدة السلطة في نيسان (أبريل) من العام 1978.
يسجل إساكس وداونينغ: “بدأت الحكومة اليسارية بإجراء إصلاحات لقوانين ملكية الأرض وشجعت النساء على الانضمام إلى صفوف محو الأمية المدارس إلى جانب الذكور”.
لم يكن رجال الدين الإسلامي المتشددين سعيدين جداً بذلك، وتصاعدت المعارضة الدينية للحكومة اليسارية. ورأى بريجنسكي فرصة كبيرة في دعم المجاهدين المناهضين للحكومة، أو “جنود الله”. وثمة وجهة نظر شائعة، وإنما خاطئة، تعتقد بأن الولايات المتحدة شرعت في دعم “الثوار” الأصوليين فقط بعد أن دخلت الدبابات السوفياتية كابول في عيد الميلاد في العام 1979.
في حقيقة الأمر، كانت المساعدات المالية الأميركية للقوى المناهضة للحكومة قد بدأت قبل الغزو -وكانت مصممة بوضوح لاستدراج رد عسكري سوفياتي. وفي العام 1988، اعترف بريجنسكي بأنه كان قد دفع الرئيس كارتر إلى توقيع أول أمر بتقديم المساعدة للـ”الثوار” في تموز (يوليو) من العام 1979، قبل خمسة أشهر كاملة من التدخل السوفياتي في أفغانستان.
عن ذلك قال بريجنسكي: “كتبت مذكرة للرئيس، وشرحت له فيها أن هذه المساعدة، في رأيي، سوف تستدرج تدخلاً عسكرياً سوفياتياً”. وحتى قبل ذلك، كان مسؤولون أميركيون يلتقون مع قادة “الثوار”. وفي ذلك الحين، كان “زبيع” قد أنشأ في العام 1977 فريق عمل الشؤون القومية -الذي كان هدفه إضعاف الاتحاد السوفياتي عن طريق إثارة التوترات العرقية والدينية.
أمام هذه التطورات، وجد الكرملين نفسه في مواجهة معضلة رهيبة. سوف يكون ملعوناً إذا تدخل لمساعدة الحكومة الأفغانية المحاصرة، وسوف يكون ملعوناً إذا لم يفعل أيضاً. وكان هناك خوف من أن الأصولية الإسلامية إذا سادت في أفغانستان بعد الثورة الإسلامية في إيران، فإنها يمكن أن تتسرب إلى داخل الاتحاد السوفياتي نفسه. وفوق ذلك، كان حلف الناتو قد وافق على نشر صواريخ “بيرشنغ” و”كروز” في أوروبا.
ومع ذلك، كان الكرملين، ربما بسبب الاشتباه بوجود فخ له، ما يزال متردداً في الالتزام بإرسال قوات برية. وقد ألح تراقي في مطالبة موسكو بتقديم المزيد من المساعدة، وزار الكرملين في أيلول (سبتمبر) 1979. ولكن، بعد وقت ليس بالطويل، أطيح بتراقي نفسه (وقتله خنقاً بالوسائد)، وتولى رئيس وزرائه، حفيظ الله أمين، منصب الرئيس. واعتقدت موسكو بأن أمين يستعد لإعادة التمحور والتحرك في اتجاه الغرب.
قرر الكرملين التصرف أخيراً، حتى مع وجود معارضة من داخل المكتب السياسي. ويوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 1979، حصل بريجنسكي من سانتا (بريجينيف) على هدية عيد الميلاد التي أرادها طويلاً. واعترف في وقت لاحق: “يوم عبر السوفيات الحدود رسمياً، كتبت للرئيس كارتر، بشكل أساسي: “لقد أصبحت لدينا الآن الفرصة لإعطاء الاتحاد السوفياتي فيتنامه الخاصة”. وقد حث سايروس فانس على إيجاد حل دبلوماسي، لكن كارتر استمع -لسوء الحظ- إلى “زبيغ”.
طار مستشار الأمن القومي إلى باكستان في أوائل العام 1980، ووقف قبل سنتين من ظهور أول فيلم من سلسلة رامبو أمام كاميرات المصورين وهو يحمل بندقية رشاشة من صنع صيني في معبر خيبر. وقال للمحاربين المقدسين المجتمعين: “إن قضيتكم عادلة ومحقة، والله يقف إلى جانبكم”.
على مدى العقد التالي، تدفقت مليارات الدولارات من المساعدات والأسلحة من الولايات المتحدة وحلفائها لتسليح الثوار الإسلاميين، الذين وصفوا بشكل مجازاً باسم “مقاتلي الحرية”.
بل إن رونالد ريغان كرس المكوك الفضائي، كولومبيا، للثوار المناهضين للحكومة الأفغانية في العام 1982. وأعلن الرئيس: “إن نضال الشعب الأفغاني يجسد أعلى تطلعات الإنسان إلى الحرية”.
لم يكن “الثوار” الأفغان فقط هم الذين يقاتلون ضد الحكومة الاشتراكية في كابول. فبتشجيع وتجهيز من الولايات المتحدة وحلفائها، جاء ما بين 25.000 و80.000 مقاتل أجنبي إلى البلد من بلدان أخرى.
في ذلك الوقت، فعل الصقور في واشنطن، في متابعة لقيادة بريجنسكي المناهضة لموسكو، كل ما في وسعهم لمنع التوصل إلى حل دبلوماسي للصراع. وكان الهدف، باستخدام عبارات “زبيغ” نفسه، هو “جعل السوفيات ينزفون بأكبر قدر ولأطول فترة ممكنة”.
ذهبت تحذيرات ميخائيل غورباتشوف من احتمال أن تكون لمخاطر صعود الأصولية الإسلامية واستيلاء متشدد على أفغانستان تداعيات عالمية بعيدة المدى، دون أن يأبه بها أحد. وقد خرجت طالبان وتنظيم القاعدة من رحم المجاهدين، ثم بعد سنوات كثيرة لاحقة، قادت الولايات المتحدة غزواً لأفغانستان لمحاولة التخلص من طالبان. لكن طالبان ما تزال موجودة هناك (كما هو حال “داعش” والقاعدة)، وقد شنت لتوها هجوم ربيع جديد قاتل. ولم تعرف أفغانستان سوى الحرب في هذه السنوات الأربعين أو نحو ذلك. ولرغبة بريجنسكي في إعطاء الاتحاد السوفياتي “فيتنامه الخاصة” حصة كبيرة رهيبة في كل ذلك.
وليس ذلك فحسب، فقد تم نسخ استراتيجيته القائمة على دعم الجهاديين لنزع استقرار وإسقاط الحكومات الاشتراكية الصديقة للاتحاد السوفياتي أو روسيا في بلدان أخرى، مثل سورية وليبيا، مع تداعيات مدمرة وهائلة على الصعيدين القومي والدولي.
مع كل ذلك، لم يظهر “الرجل العظيم” أي ندم على ما جنت يداه. وقد سئل في العام 1998: “هل تندم على أنك دعمت الأصولية الإسلامية، التي أعطت الأسلحة والمشورة للإرهابيين المستقبليين”؟ فأجاب بريجنسكي: “ما الذي كان أكثر أهمية لتاريخ العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفياتية؟ بعض المسلمين المهتاجين أم تحرير أوروبا الوسطى ونهاية الحرب الباردة؟”.
وسأله الشخص الذي يجري المقابلة: “بعض المسلمين المهتاجين”؟ لكن ما يقال تكراراً هو أن الأصولية الإسلامية تشكل تهديداً عالمياً اليوم. وكان رد بريجنسكي: “هراء”.
ثم في العام 2008، عندما سُئل مرة أخرى عن سياساته في أفغانستان، قال بريجنسكي: “لن أتردد في فعل ذلك مرة أخرى”. وعندما ننظر وراء إلى خلافات الأعوام 1979 و1980 بين “زبيغ” وسايروس فانس الذي كان الأكثر حذراً، والذي وصف بريجنسكي بـ”الشرير”، فقد أظهر لنا التاريخ بالتأكيد مَن الذي كان محقاً ومَن الذي كان مخطئاً. لو أن فانس، وليس الأكاديمي المعتد جداً بذكائه حد الإزعاج، هو الذي ساد فحسب!
نيل كلارك
صحيفة الغد