شكّل الملف السوري محورا رئيسيا في اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الأميركي دونالد ترامب خلال قمة دول العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية في بداية شهر يوليو. وانتهى اللقاء الذي دام ساعتين باتفاق الطرفين على تطبيق جزئي لوقف إطلاق النار في مناطق الجنوب الشرقية السورية التي تشمل القنيطرة والسويداء ودرعا ومناطق البادية السورية وصولا إلى نقطة التنف المعبر الحدودي مع العراق.
وحتى كتابة هذه السطور يمكن القول إن الاتفاق نجح في تحقيق الهدنة في المنطقة المحددة، بانتظار تفعيل آلياته من الجهات المعنية والعمل على تثبيته رسميا ليكون نموذجا للحل في المناطق الأخرى ونقطة للبدء في ترسيخ عمليات الهدنة في سوريا بشكل عام.
يعود طرح منطقة الجنوب بالأساس إلى طبيعة المنطقة وتداخلها الحدودي مع العراق والأردن وإسرائيل. والإسراع على الموافقة في وقف القتال في الجبهة الجنوبية من قبل الدولتين يؤكد محاولة موسكو وواشنطن التعاطي مع الأمور بشكل جدي في محاولة منهما لإنجاح الاتفاق. لتكون هذه النقطة تجربة جديدة وفعلية لطرح سيناريوهات قادمة لحل عام أو جزئي في ظل غياب الحلول الفعلية للأزمة السورية من قبل الدول المشاركة في الحرب، وكذلك فشل نظرية التقسيم التي كانت دول عديدة تعمل على فرضها بواسطة السلاح والفرز الديمغرافي.
أتى التفاهم السريع على وقف القتال في جبهة المنطقة الجنوبية نظرا لأهميتها الجيوسياسية للدول المتحاربة وأيضا لخطورة الانزلاق في حروب مدمّرة في المنطقة نتيجة التداخل الإسرائيلي فيها، فالجبهة الجنوبية ستكون أساسا في عملية التفاهمات الدولية للتعاطي مع المشكلة السورية مستقبلا في حال نجاح هذا الاتفاق.وتحاول روسيا فتح باب التحاور مع الإدارة الأميركية من خلال ترسيخ مفاهيم جديدة للتعاطي مع الأزمة السورية.
وأعطت موسكو إشارات عديدة بأن مفتاح الحل بات مرهونا بالاعتراف بنفوذها الجيوسياسي في سوريا. وروسيا يمكنها في أيّ لحظة التخلي عن بشار الأسد والبحث في مستقبل نظام جديد في سوريا.
لا يمكن لروسيا الاستمرار في نفس التعاطي مع الأزمة السورية التي باتت تشكل أزمة اقتصادية لها وتستنزف قدراتها المالية وتشكل تهديدا داخليا باندلاع مواجهات قادمة في الشارع الروسي. لذلك نرى أن من أهم نتائج اجتماع هامبورغ أن روسيا معنية بالتنسيق السريع مع الأميركيان للحصول على اعتراف يؤمن لها شراكة سياسية واقتصادية في النظام القادم ويضمن لها نفوذا مستقبليا في سوريا ويفتح لها أفقا جديدا في العلاقات الروسية الأميركية.
وأثار التصعيد العسكري الأميركي مؤخرا شكوكا حول توجه واشنطن نحو الحل العسكري في سوريا بمساعدة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، لذلك لا نستغرب تحركا عسكريا أميركيا وبريطانيا مع الأردن في سوريا وشن ضربات ضد التنظيمات الإرهابية أولا والميليشيات التابعة لإيران وربما الجيش النظامي السوري ثانيا.
كانت روسيا على اطلاع مباشر بمجريات معارك البادية السورية والتهديد المباشر للقوات الإيرانية، بالإضافة إلى فشل مؤتمر جنيف وعدم التوصل إلى حلول ونتائج وأيضا عدم التعاطي الإيجابي مع مقررات قمة أستانة، لذلك باتت تسعى لتأمين هذا التفاهم بأسرع مما يمكن والوصول إلى نتائج حتى ولو كانت صغيرة.
إيران تعي جيدا أن معارك المناطق هي ما سيقرّر مستقبل سوريا لذلك تعمل بالتوافق مع النظام للسيطرة على المعابر السورية لأن المسيطر على المعابر هو من يتحكم بالقرار السياسي
نجاح وقف إطلاق النار في مناطق الجنوب وضبط الحدود من قبل الدول الثلاث المعنية (روسيا والأردن والولايات المتحدة)، سيمكن الروس لاحقا من البحث في ملفات أخرى كبرى يحاولون فتحها مع المفاوض الأميركي بخصوص سوريا وغيرها.
وكانت الإدارة الأميركية التي حملت شعار المواجهة في سوريا قد غابت عنها الرؤية الفعلية للتعامل مع هذه الأزمة المعقدة واقتصرت استراتيجيتها على محاربة الإرهاب وداعش.
لكن تطورات الأزمة السياسية وامتداد نيرانها فرضا عليها البحث الجدي في مستقبل سوريا بعد انهيار داعش، فكانت الخطة الأميركية الجديدة تعتمد على التفاهم مع روسيا والانطلاق من منطقة الجنوب التي ستكون بالون اختبار لنوايا وتصرفات روسيا وقدرتها الفعلية على تنفيذ الالتزامات المقترحة والمطروحة وسيحدد مدى قدرة روسيا على كبح طموح إيران وميليشياتها.
بالطبع ستكون إيران العائق الأكبر لهذا الطّرح ولن تلتزم بالهدنة وستعمل على إفشالها. وهذه السياسية ليست جديدة على إيران التي عمدت من قبل على إفشال اتفاقات عديدة كانت روسيا قد عقدتها مع المعارضة السورية.
كان الموقف الإيراني واضحا وثابتا من خلال استنزاف المعارضة في هذه المناطق وتحجيم دورها والانقضاض التدريجي عليها دون الالتزام بأيّ اتفاقات في ظل الغياب الأميركي الواضح عن الصورة التفاوضية.
تعي إيران جيدا أن معارك المناطق هي ما سيقرّر مستقبل سوريا لذلك تعمل بالتوافق مع النظام للسيطرة على المعابر السورية لأن المسيطر على المعابر هو من يتحكم بالقرار السياسي وبالتالي وصولها إلى الجنوب من خلال ميليشياتها سيكون فرض الأمر الواقع.
في حال خسارة الجنوب تعرف إيران أنها لن تكون لاعبا أساسيا في صياغة مستقبل سوريا ولن تتمكن من تحقيق أهدافها. وقد كانت خطة إيران منذ اندلاع الحرب السيطرة على تمرير خطوط أنابيب الغاز والنفط من إيران إلى البحر المتوسط للوصول إلى أوروبا من خلال السيطرة على الهلال النفطي الذي يؤمّن لإيران موقعا جديدا في النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي العالمي.
لن توافق إيران التي قاتلت في سوريا طوال ست سنوات لتنفيذ مشاريعها على ما تسعى إليه روسيا في الجنوب الأمر الذي ينذر بقرب خلافات بين طهران وموسكو. وذروة الخلاف الوشيك ستأتي من باب الاقتصاد حيث لن تسمح روسيا لإيران بمنافستها على خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا، خاصة وأن أوروبا تسعى لإيجاد خطوط جديدة بعيدة عن سيطرة روسيا.
بالرغم من التحالف بينهما، أسباب كثيرة تمنع استمرار علاقة الصداقة بين موسكو وطهران على المدى الطويل. فروسيا تنظر بالدرجة الأولى إلى مصالحها. وفي النهاية انفتاح الأفق بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا سيكون تأثيره مباشرا على إيران.
خالد ممدوح العزي
صحيفة العرب اللندنية