لعلّه خير، أن تتزامن هبة الشعب الفلسطينى دفاعاً عن حرمة الأقصى وشرف الأمة والدين مع الذكرى الخامسة والستين لثورة 23 يوليو 1952 التى كانت انطلاقتها الأولى ونواة تأسيسها على رمال فلسطين، حيث كان هناك عدد من الضباط المصريين الأحرار الذين قادوا هذه الثورة ضمن قوات الجيش المصرى الذى دُفع به عام 1948، دون إعداد أو تسليح، للقتال فى فلسطين، وكانت مأساة هذه الحرب هى الشرارة التى عجلت بانطلاق الثورة فى مصر يوم 23 يوليو عام 1952، أى بعد أربع سنوات من نكبة عام 1948.
هناك، على رمال فلسطين، وسط بحور دماء الشهداء والمصابين من العسكريين المصريين، كان الميلاد الحقيقى لوحدة المصير والدم والمستقبل، مستقبل مصر ومستقبل العروبة، ومستقبل فلسطين، لقد تجاوزت العلاقة بين فلسطين ونكبتها عام 1948 وبين مصر حدود التأثير والتأثر، وتحولت إلى صنع المستقبل والمصير، مستقبل مصر ومصير فلسطين، ومعهما معاً مستقبل الأمة العربية.
وانطلاقاً من هذا الوعى المبكر، وضع زعيم هذه الثورة جمال عبد الناصر القانون السياسى الحاكم لإدارة الصراع العربي- الصهيوني، وهو القانون الذى صاغه بدمائه على رمال «الفالوجة» الفلسطينية التى حوصر فيها وقواته ولم يستسلم، كان سؤال الخلاص من الهزيمة والبحث فى كيف يمكن تحرير فلسطين هو شاغله الأول ومنه خرج بالإجابة «القانون»: تحرير القدس رهن بتحرير القاهرة وكل العواصم العربية، طالما أن الدول العربية محتلة، وطالما أن الإرادة العربية مكبلة بالقيود، وطالما أن استقلالية القرار الوطنى غائبة فلا أمل فى تحرير فلسطين، هذا هو القانون الحاكم لإدارة الصراع مع الكيان الصهيونى لتحرير فلسطين وحماية الأقصي: تحرير القرار السياسى العربى وتحرير الإرادة الوطنية والقومية هما الشرطان اللازمان لخوض صراع حقيقى ينتهى ليس فقط بتحرير فلسطين، بل وبتحقيق الوحدة العربية، ومن ثم إعادة الانخراط فى مشروع نهضوى للأمة.
وعى جمال عبد الناصر هذا القانون، وعاد من فلسطين ليعد العُدة لتحرير القاهرة من الاحتلال البريطانى ويُسقط النظام الحاكم الموالى لهذا الاحتلال، وكانت ثورة 23 يوليو عام 1952 هى الترجمة العملية المباشرة لهذا القانون الذى استخلصه جمال عبد الناصر على رمال فلسطين.
هذا الوعى لم يأت من فراغ، فقد انحازت طلائع ثورة 23 يوليو 1952 من الضباط المصريين الأحرار لقضية الشعب الفلسطينى قبل ثورتهم بخمس سنوات. ففى سبتمبر 1947 قررت لجنة الضباط الأحرار مساندة حركة المقاومة العربية فى فلسطين، وأرسلت بعض أعضائها كمتطوعين، وانضم بعض هؤلاء من دمشق إلى «جيش الإنقاذ العربي» بقيادة المناضل «فوزى القاوقجي»، وقال جمال عبد الناصر وقتها لزملائه قبل مغادرتهم: «لو فرض القتال فى فلسطين فإن ذلك لن يكون مجرد حرب فى أرض عربية بل سيكون واجباً مقدساً للدفاع عن النفس»، وهكذا أدخل جمال عبد الناصر مبكراً قضية فلسطين إلى عمق قلب وروح مصر ليصبح الدفاع عن فلسطين دفاعاً عن النفس، الدفاع عن فلسطين دفاع عن مصر، عن «الأمن الوطني» المصري، هكذا كانت العسكرية المصرية منذ «أحمس العظيم» الدفاع عن أمن مصر الوطنى يبدأ من شمال سوريا، ومن هنا كان الارتباط التاريخى والإستراتيجى بين «بر الشام وبر مصر»، عندما توحدت مصر والشام تاريخياً كانت عزة الأمة وانتصاراتها، الدفاع المصرى عن فلسطين ليس منّة من المصريين، بل هو دفاع عن النفس، عن مصر وأمنها وليس مجرد تضامن مع شعب عربى شقيق.
لقد وعى قادة الكيان الصهيونى مبكراً العلاقة بين المشروع الثورى المصرى الذى حملته ثورة 23 يوليو 1952 وهدف تحرير فلسطين، لذلك صمم ديفيد بن جوريون على غزو مصر سنة 1955 لتوسيع رقعة «إسرائيل» من ناحية، وتحجيم جمال عبد الناصر ومشروعه الثورى الذى رآه خطراً على الوجود الإسرائيلى من ناحية أخري.
فقد حددت إسرائيل مبكراً، وبالتحديد منذ نهاية عام 1954 أن مصر هى العدو الرئيسى بعد نجاح مصر فى توقيع اتفاقية جلاء 80 ألف جندى بريطانى عن شواطئ قناة السويس. بعدها لجأت إسرائيل إلى التخريب داخل مصر، فيما عُرف بـ «فضيحة لافون»، ثم كان العدوان الغادر على غزة عام 1955 (كانت تحت الإدارة المصرية بعد حرب 1948، والعدوان عليها عدوان على مصر)، ثم العدوان على القوات السورية قرب بحيرة طبريا، وجاءت سنة 1956، ومنذ بدايتها، لتشهد الإعداد الإسرائيلى الحقيقى لشن عدوان كبير على مصر، من خلال التوقيع على اتفاقيات واسعة للتسليح، ولم يكن غريباً أو مفاجئاً، أن الدول التى سلحت إسرائيل فى ذلك الوقت هى التى شاركتها العدوان على مصر عام 1956: بريطانيا وفرنسا تحت غطاء استرداد السيطرة على قناة السويس التى كان جمال عبد الناصر قد أعادها إلى السيادة الوطنية المصرية ليمول من إيرادها بناء السد العالى بعد تراجع البنك الدولى عن تمويل بناء السد بضغوط أمريكية.
لقد شهدت السنوات الممتدة من عام 1956، وحتى حرب أكتوبر 1973 ثلاثية كبرى فى تاريخ الحرب العربية – الإسرائيلية التى كانت مصر الطرف الفاعل الرئيسى فيها، لقد خاص المصريون بدمائهم وأرواحهم المعارك الكبرى فى ملحمة يشهد لها التاريخ ضد الكيان الصهيونى دفاعاً عن أمنهم الوطنى، ودفاعاً عن عروبتهم، ودفاعاً عن فلسطين، وإذا كانت اتفاقيات السلام قد خدعت الإسرائيليين وأوهمتهم أن مصر قد غابت ولن تعود وأنهم قد حسموا الصراع بالكامل لصالحهم، وأن هذا هو أوان هدم الأقصى وبناء «الهيكل» المزعوم رمزاً لدولتهم على كل أرض فلسطين وأن تكون القدس «عاصمتها الموحدة» فإنهم يخدعون أنفسهم ويصنعون الوهم بأيديهم، لم ينفصل المصريون يوماً عن فلسطين، ولا عن أن الدفاع عن فلسطين دفاع عن النفس، دفاع عن مصر، ربما تكون مشكلاتهم الداخلية قد شغلتهم قليلاً، وربما تكون الحرب ضد الإرهاب اللعين ومنظماته المتواطئة مع إسرائيل قد استحوذت على أولوية ضمن أولويات وتحديات كثيرة، لكن صرخة الأقصى أعادت المصريين مجدداً إلى المبادئ الحاكمة للصراع مع هذا العدو، وإلى استعادة الوعى بحقيقة المشروع الصهيونى الذى يستهدف مصر بالأساس.
أصداء الأقصى وتزامنها مع ذكرى ثورة 23 يوليو 1952 تؤكد أن تجديد المواجهة فى الأقصي، لن تكون أبداً صراعاً مع المستحيل الذى يتساقط مع تساقط أرواح الشهداء فى ملحمة أسطورية عنوانها الأقصى وهدفها هو فلسطين.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الأهرام