الباحثة شذى خليل*
لم يتعافى الاقتصاد العالمي من الأزمات المتتالية التي عصفت به خلال السنوات الأخيرة حتى تلقى ضربة قاسية جديدة، فلم يكد يلتقط أنفاسه من الآثار السلبية للجائحة التي استمرت لنحو عامين والحرب الروسية الأوكرانية التي أشعلت فتيل الأزمات الاقتصادية حول العالم حتى وجد نفسه في مواجهة تهديد جيوسياسي جديد في غزة.
لتوقعات الزيادة في أسعار المواد الغذائية آثار كبيرة على الأفراد والشركات والحكومات على حد سواء. إذ شهدت أسعار القمح في اليومين الماضيين زيادة بنسبة 1.72%، حيث ارتفعت بحوالي 9.75 دولارات للطن في بورصة شيكاغو التجارية. ودفع هذا الارتفاع سعر القمح إلى 578 دولارًا للطن. ويعود سبب هذا الارتفاع إلى المخاوف بشأن احتمال ارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية إذا استمر الصراع الدائر في الأقصى لفترة طويلة.
وهذه التوقعات مدفوعة بمجموعة متنوعة من العوامل ويمكن أن تؤدي إلى آثار قصيرة وطويلة الأجل على الاقتصاد والمجتمع. وفيما يلي بعض النقاط الرئيسية التي يجب مراعاتها:
ديناميات العرض والطلب: العامل الأكثر أهمية الذي يؤثر على أسعار المواد الغذائية هو التفاعل بين العرض والطلب. إذا كان الطلب على المنتجات الغذائية يفوق العرض، فإن الأسعار تميل إلى الارتفاع. يمكن أن يحدث هذا بسبب عوامل مثل النمو السكاني، أو التغيرات في تفضيلات المستهلك، أو الاضطرابات في سلسلة التوريد (على سبيل المثال، النزاعات التي تحدث في فلسطين إثر عملية الأقصى والكوارث الطبيعية التي تؤثر على غلات المحاصيل).
الأحداث الجيوسياسية: يمكن لعدم الاستقرار السياسي والصراعات والنزاعات التجارية في المناطق الرئيسة المنتجة للغذاء أن تعطل سلاسل التوريد وتؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ويمكن أن تؤثر التوترات التجارية العالمية أيضًا على توافر الواردات الغذائية وتكلفتها. فقد أعرب تجار الحبوب الدوليون عن مخاوفهم من أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي طال أمده يمكن أن يعطل سلاسل الإمدادات الغذائية في جميع أنحاء العالم ويؤدي بالتالي إلى زيادة في أسعار الوقود. ومن شأن ارتفاع تكاليف الوقود بدوره أن يؤدي إلى زيادة النفقات المرتبطة بنقل الغذاء.
إن تصاعد التوترات والاضطرابات المحتملة في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط الخام. وقد يؤثر ذلك على الواردات حيث سيتم تحمل تكاليف النقل المتزايدة في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن ارتفاعات معينة في الأسعار قد تكون مؤقتة، إلا أن الصراع المستمر أو المتصاعد قد يؤدي إلى اضطرابات طويلة الأمد في سلاسل التوريد وزيادة التكاليف، مما قد يؤثر على أسعار المستهلك على المدى الطويل. إلا أن بعض المحللين لديهم وجهة نظر مختلفة، إذ يشيرون إلى أن عملية “طوفان الأقصى” قد لا تؤثر بشكل كبير على أسعار الغذاء العالمية. وينشأ هذا المنظور من حقيقة أن منطقة الشرق الأوسط هي في المقام الأول مستوردة للأغذية وليست مصدرة.
وعرضت مونيكا توثوفا، المحللة الاقتصادية في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، أفكارها، مشيرة إلى أنه من غير المرجح أن يكون للاضطرابات في الشرق الأوسط تأثير كبير على أسعار المنتجات الغذائية. وذلك لأن دول المنطقة تستهلك هذه السلع في الغالب بدلاً من تصديرها. وأضافت: “على الرغم من استقرار مؤشر أسعار السلع الأساسية، إلا أنه من الضروري مراقبة الوضع لتقييم الكيفية التي قد يتطور بها الصراع وتأثيره المحتمل على سلاسل التوريد”.
وفي تقريرها الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي، أشارت منظمة الأغذية والزراعة إلى أن مؤشر أسعار المواد الغذائية ظل مستقراً بشكل عام. ومع ذلك، أظهرت بعض مجموعات السلع الأساسية اتجاهات مختلفة، بما في ذلك السكر والأرز، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بسبب المخاوف المتعلقة بسلاسل الإنتاج والتوريد. وشددت توثوفا على أن أنماط الطلب على السلع الغذائية تتغير عادة بوتيرة أبطأ مقارنة بجانب العرض. وبالتالي، إذا انخفض العرض أو ارتفعت الأسعار، يميل المستهلكون إلى تقليل مشترياتهم من هذه السلع.
ومن العوامل الأخرى التي تؤثر على مستوى الأسعار العالمية للغذاء، الطقس والمناخ، إذ تلعب الظروف الجوية دوراً حاسماً في الإنتاج الزراعي. يمكن أن تؤدي حالات الجفاف والفيضانات ودرجات الحرارة القصوى وغيرها من الأحداث المرتبطة بالطقس إلى إتلاف المحاصيل وتقليل الغلة، مما يؤدي إلى انخفاض الإمدادات الغذائية وارتفاع الأسعار. والظروف الاقتصادية العالمية، يمكن لحالة الاقتصاد العالمي أن تؤثر على أسعار المواد الغذائية. ويمكن أن يؤدي النمو الاقتصادي وزيادة مستويات الدخل إلى ارتفاع الطلب على الغذاء، في حين قد يؤدي الركود الاقتصادي إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي، مما يفرض ضغوطا هبوطية على الأسعار.
أسعار السلع: ترتبط العديد من المنتجات الغذائية بأسعار السلع الأساسية مثل الحبوب (القمح، الذرة، الأرز)، البذور الزيتية (فول الصويا، زيت النخيل)، والماشية (الأبقار، الدواجن). ويمكن للتغيرات في أسعار هذه السلع أن تؤثر بشكل مباشر على تكلفة إنتاج الأغذية، وبالتالي على أسعار التجزئة.
تكاليف الطاقة: يمكن أن تؤثر تكلفة الطاقة، وخاصة أسعار النفط، على أسعار المواد الغذائية. هناك حاجة إلى الطاقة لمراحل مختلفة من إنتاج الغذاء، بما في ذلك الزراعة والحصاد والنقل والمعالجة. عندما ترتفع أسعار الطاقة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والتوزيع، والتي غالبا ما تنتقل إلى المستهلكين.
أسعار الصرف: يمكن أن تؤثر التقلبات في أسعار صرف العملات على أسعار المواد الغذائية، وخاصة بالنسبة للبلدان التي تعتمد على الواردات. ومن الممكن أن يؤدي ضعف العملة المحلية إلى جعل الأغذية المستوردة أكثر تكلفة، مما يساهم في الضغوط التضخمية.
السياسات الحكومية: يمكن أن تؤثر السياسات الحكومية، مثل الإعانات والقيود التجارية واللوائح التنظيمية، على أسعار المواد الغذائية. على سبيل المثال، يمكن للإعانات أن تبقي الأسعار منخفضة بشكل مصطنع، في حين يمكن للقيود المفروضة على الصادرات أن تقلل من توافر الغذاء في السوق العالمية، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
توقعات المستهلك: يمكن لتوقعات المستهلك بشأن أسعار المواد الغذائية في المستقبل أن تؤثر أيضاً على الأسعار الحالية. وإذا توقع المستهلكون ارتفاع الأسعار في المستقبل، فقد يقومون بتخزين المواد الغذائية، مما يزيد الطلب ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المدى القصير.
المضاربة: يمكن أن تساهم المضاربة المالية في أسواق السلع الأساسية في تقلب الأسعار. إذ يقوم تجار ومستثمرون في كثير من الأحيان بشراء وبيع السلع الغذائية بناءً على توقعاتهم لتحركات الأسعار في المستقبل، مما قد يؤدي إلى تفاقم تقلبات الأسعار.
العوامل البيئية: يمكن أن يكون للقضايا البيئية طويلة المدى، مثل تدهور التربة، وندرة المياه، وتغير المناخ، تأثيرات دائمة على إنتاج الغذاء وأسعاره. وتعتبر الممارسات الزراعية المستدامة والتكيف مع تغير المناخ أمرين حاسمين في التصدي لهذه التحديات.
في الختام، يبدو أن العالم يشهد فترة استثنائية من التحديات الاقتصادية والسياسية المعقدة. هذا الصراع الجديد في منطقة الشرق الأوسط يضاف إلى تلك الضغوط المتزايدة على الاقتصاد العالمي، وهو ما يجعلنا ندرك أهمية التعاون الدولي والاستقرار في مواجهة هذه التحديات.
إن توجيه ضربة للثقة في الاقتصاد العالمي يجعل من الضروري أن نبحث عن حلول جديدة ومبتكرة لتحقيق الاستدامة والاستقرار. ويتطلب ذلك تعزيز التعاون الدولي وإيجاد طرق للتهدئة والحوار في المناطق المتضررة. حيث يجب أيضًا أن نستفيد من التجارب السابقة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية لتحقيق تعافٍ سريع ومستدام.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاسترتيجية