تتقدّم قوات النظام السوري وقوات «سوريا الديمقراطية» (الاسم الفنّي لـ«وحدات الحماية الكردية» المدعومة أمريكياً) نحو مدينة دير الزور (شرق سوريا المحاذي للعراق)، فيما تتراجع فصائل المعارضة الجنوبية (المدعومة أيضاً من أمريكا) إلى الحدود الأردنية، وتتفاهم روسيا مع إسرائيل على تطويب مرتفعات الجولان وحمايتها من اقتراب الميليشيات المحسوبة من إيران، وتتفق روسيا وإيران وتركيا على نشر مراقبين في إدلب (شمال سوريا)، وتضطر الفصائل المدعومة من دول عربية في المناطق الأخرى إلى قبول شروط «خفض التصعيد» و»المصالحات».
هذا المشهد السوري، على تعقيده، هو أيضاً حراك لـ«خفض التصعيد» بين القوى الإقليمية و«المصالحات الإجبارية» بينها، التي تؤسس لها تفاهمات أمريكا وروسيا ما وراء الكواليس، وهذا يؤدي، في نتيجته الحقيقية، إلى تكريس مناطق تقاسم النفوذ والسيطرة لهذه القوى على ما تبقى من أشلاء السوريين، وعلى بقعة الجغرافيا المفتوحة والمدمّاة التي كانت تسمى سوريا.
الأضحية الكبرى في هذه المعادلة المستجدة، كانت، وما تزال، هي الشعب السوري، الذي ثار بعد 48 عاماً من حكم طغيان عسكري وراثيّ متوحّش يخلط الأيديولوجيا والممارسات الطائفية بالشعارات الكبرى: الوحدة، التي كانت قناعا لتفتيت المجتمع السوريّ نفسه وتحويله إلى مستحاثات مغلقة للطوائف والقوميّات الخائفة ولإرهاب كل ما حوله من فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين؛ والحرّية، التي هي نكتة سوداء عن مسلخ كبير للبشر، والاشتراكيّة، التي كانت، عمليّاً، نهب عصابات منظّماً لثروة المجتمع السوري وخنقا لإمكانيات تطورّه الطبيعي.
في محاولتهم اليائسة للخلاص من الطغيان، دفع السوريون أثماناً تفوق التصوّر، فقتل منهم مئات الآلاف، واختفى مئات آلاف آخرين في السجون، وتهجّر ونزح نصف عدد السكان، واندثرت مدن وبلدات وقرى تحت الأنقاض، وما زال الباقون على الحياة منهم في الرقة ودير الزور ودرعا وإدلب وريف حماة ودمشق تحت طائلة القصف المكثّف، حيث يجرّب الروس والأمريكيون مفاعيل صواريخهم وغواصاتهم ومقاتلاتهم، من دون أي ردّ فعل أي اتجاه سياسيّ وازن في العالم، فاليمين العنصريّ لا يرى في سوريا غير نظام يحقق أهدافه في قتل «الإرهابيين الإسلاميين»، ومنظمات اليسار (الذي تحشّد وتظاهر فقط حين قصف المطار «الكيميائي») ترى في نظام الأسد حكماً «معادياً للإمبريالية»!
ما حصل في سوريا، ورغم أن السوريين هم من دفعوا ثمنه الأكبر، هو خلاصة ما يحصل في العالم من اختلال هائل يعلن عن عطب الأيديولوجيات الإنسانية الحديثة، بطبعاتها الثلاث: الليبرالية الغربية المأزومة والتي تتراجع حاليّاً أمام صعود نزعات العنصرية والفاشية التي اندحرت في الحرب العالمية الثانية لكنها استعادت قوّتها وتشهد صعوداً هائلاً حاليّاً، واليسار بكافة أنواعه، الذي كسب بعض المعارك المهمّة حاليّاً، وأعاد ترتيب صفوفها بعد أن غيّر الكثير من شعاراته وتكتيكاته، وهو مناصر بشكل طبيعي لدول مثل روسيا والصين وفنزويلا… وحتى نظامي بشار الأسد في سوريا وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
غير أن التدخّلات الهائلة للقوى الكبرى والإقليمية، والتي ساهمت في تراجع حلم الحرية السوري، لا تعفي السوريين من بعض المسؤولية، فالطاقة الهائلة التي خلقتها الثورة، وضحّى لأجلها مئات الآلاف بأرواحهم، لم تتناسب حق التناسب مع بعض النخب السياسية التي تنطّعت لقيادتها، وضمن العديد من المسؤوليات التي تنكّبتها لم تنجح تلك القيادات السياسية في خلق أطر ديمقراطية فعليّة تعبّر عن الديناميّات الهائلة التي اعتملت داخل المجتمع السوري، وهو ما ساهم، مع فيض ظروف القمع والبؤس واللجوء، إلى تراجع سرديّة الثورة وشعاراتها عن الحريّة والعدالة، وتآكلها المتدرّج، أمام سرديّة النظام التي ما انفكّ يردّدها حول «الإرهاب» الإسلامي، فيما كانت أجهزته الأمنية تعمل على توطيد الإرهاب وتعزيز أركانه، والتعاون معه، لمهاجمة أي أثر لمدنيّة وديمقراطية الثورة وإنجازاتها السياسية والعسكرية.
القدس العربي