في أعقاب الاستفتاء الذي أجري في 25 أيلول/سبتمبر حول استقلال «إقليم كردستان»، نشرت إيران قوات ومعدات عسكرية إضافية على الحدود مع شمال العراق، وجعلتها عمداً تتنقل عبر الأراضي الإيرانية الكردية في وضح النهار بمثابة إظهار القوة أمام الجماهير في البلاد وخارجها. وتتماشى عمليات النشر هذه مع موقف إيران المتشدد إزاء المضي قدماً في التصويت، حيث تشير القيادة السياسية والفروع العسكرية صراحةً إلى أن النتيجة غير مقبولة. ويبدو أن إيران تلتمس مساعدة بغداد وتركيا في التحضير لتصعيدٍ محتمل ضد «حكومة إقليم كردستان».
المراسلة من خلال التدريبات العسكرية
في الأسابيع الأخيرة، شاركت وحدات “الاستجابة السريعة” في «الحرس الثوري الإسلامي» والقوات المسلحة الوطنية في إيران (“جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية” – “أرتيش”) في مناورات عسكرية منفصلة ومناورات بالذخيرة الحية قرب حدود [أراضي] «حكومة إقليم كردستان» أو على طولها، مما دفع السلطات في أربيل إلى التذمّر من أن دفعات نيران المدفعية كانت تسقط على جهتها من الحدود. فمع تولي مقر “حمزة سيد الشهداء” في أرومية مهمة مراقبة العمليات، نشر «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني دبابات من طراز “تي-72″، وطائرات بدون طيار، ومدافع “فوزديكا” ذاتية الدفع يصل مداها إلى 21 كيلومتراً إلى إقليم أشنوية الجبلي قرب الجهة الشمالية الشرقية لـ «حكومة إقليم كردستان».
وفي غضون ذلك، وعلى بعد حوالي 280 كلم جنوباً عند معبر “برويز خان” الحدودي، نشر “جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية” مركبات مدرعة قديمة يدعمها عددٌ محدود من المدفعيات وطائرات الهليكوبتر [العمودية] وطائرات بدون طيار. وللتعويض عن النقص في المعدات في هذه الوحدات، نشر هذا الجيش أيضاً عناصر من “كتيبتيْ القوات الخاصة التابعة للواء 65 وللواء 35″ من طهران وكرمنشاه على التوالي. فهذه القوات ملائمة جدّاً لخوض الحروب غير التقليدية في عمق الأراضي الجبلية للعدو. كما شاركت في مناورات «الحرس الثوري الإسلامي» و”جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية” نخبة من “جهاز مكافحة الإرهاب العراقي” الذي تلقى تدريباً أمريكياً، وأدى دوراً رئيسياً في استرجاع الموصل من تنظيم «الدولة الإسلامية» هذا الصيف.
ولا تشير هذه المناورات المشتركة بأي حال من الأحوال إلى اتخاذ قرار وشيك بغزو «إقليم كردستان»، ولكن من الواضح أن توقيتها مقصود، وسوف تزيد من استعداد القوات الإيرانية والعراقية إذا صدر الأمر. وبالنظر إلى أن معظم وحدات “جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية” المنتشرة لا تتمتع بالقوة والمعدات الكافية، من المرجح أن يتولى «الحرس الثوري الإسلامي» الجزء الأكبر من أي عملية من هذا القبيل، ويؤدي “الأرتيش” دوراً داعماً من خلال شن هجمات تضليلية إلى الجهة الجنوبية من الهجوم الأساسي، وهي ممارسة كانت شائعة خلال المراحل الأخيرة من الحرب الإيرانية-العراقية.
وبالإضافة إلى ذلك، وضع “مقر خاتم الأنبياء للدفاع الجوي” في إيران المزيد من أنظمة صواريخ أرض-جو على حدود [أراضي] «حكومة إقليم كردستان». وبصرف النظر عن عدد محدود من الطائرات العمودية، لا تملك إربيل أي قوات جوية تُذكَر، وبالتالي قد تساهم عمليات النشر الإيرانية هذه في النهاية في إنشاء منطقة حظر جوي فوق «إقليم كردستان» بأكمله. وفي 24 أيلول/سبتمبر، أغلقت إيران مجالها الجوي أمام جميع الطائرات الخارجة من «حكومة إقليم كردستان». ولاحقاً، حذت تركيا وبغداد حذوها، على الرغم من أن العراق ما زال يسمح لبعض الرحلات الجوية المحلية لـ«حكومة إقليم كردستان». ولا يُسمح بأي رحلات جوية أجنبية متجهة إلى الداخل، باستثناء الطائرات العسكرية والدبلوماسية.
إيران في مهمة لبناء التحالفات
وفي أعقاب عملية التصويت، أجرت إيران اتصالات رفيعة المستوى مع بغداد وأنقرة بوتيرة لم يسبق لها مثيل. وفي 4 تشرين الأول/أكتوبر، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة نادرة إلى طهران اجتمع خلالها بالمرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس حسن روحاني. وخلال الزيارة، وصف خامنئي الاستفتاء بأنه “خيانة للمنطقة بأسرها”، وحذّر من عواقب طويلة الأمد يجب معالجتها باستخدام “كافة الوسائل الممكنة”. كما دعا الحكومة العراقية إلى التصرف “بحزمٍ أكبر” في معالجة المشكلة. ويبدو أن مستشاره الرئيسي في الشؤون العسكرية اللواء يحيى رحيم صفوي أقنع بغداد باتخاذ موقفٍ شديد الصرامة حول مدينة كركوك المتنازع عليها، حيث يتركّز معظم انتاج النفط الخاص بـ«حكومة إقليم كردستان».
وفي سياقٍ مماثل، دعا وزير الدفاع الإيراني الجديد إلى ممارسة “قوة ردع ناشطة” ضد أولئك الذين استهدفوا “التماسك الإقليمي”، قائلاً إنه يجب تدمير “مؤامراتهم من مصدرها”. وكان رئيس “هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة” محمد باقري، المسؤول عن المناورات العسكرية الأخيرة، من بين أهم الذين انتقدوا الاستفتاء علناً، واصفُا إياه بأنه مؤامرة إسرائيلية. وخلال أيلول/سبتمبر، أجرى عدة اتصالات هاتفية واجتماعات ثنائية مع رئيس أركان القوات المسلحة العراقية الفريق الركن عثمان الغانمي ونظيره التركي اللواء خلوصي آكار. وفي إحدى المحادثات، أدان الباقري “بروز كيان غير شرعي في المنطقة”.
وفي 28 أيلول/سبتمبر، زار وفدٌ من مسؤولين إيرانيين وعراقيين المعابر الحدودية الإيرانية الأربعة مع «حكومة إقليم كردستان» استعداداً لنشر القوات العراقية هناك، وربما على طول كامل الحدود الشمالية والشرقية للمنطقة الكردية. وفي حين تُعتبَر هذه العملية رمزية بشكلٍ أساسي مقارنةً بعمليات النشر الإيرانية، قد تشمل هذه القوات في نهاية المطاف وحدات من «قوات الحشد الشعبي» التي تدعمها إيران أو حتى مقاتلين متمرسين من «حزب الله» اللبناني الذي تدعمه إيران أيضاً، والذي أدان زعيمه الاستفتاء باعتباره مشروع خيانة حرّض عليه أعداء “المقاومة”. كما تجدر الإشارة إلى أن أي قرار بمركزة القوات العراقية بشكلٍ دائم على المعابر الحدودية الإيرانية سيكون خرقاً للمادة 146 من دستور الجمهورية الإسلامية الذي يمنع أي شكل من أشكال تواجد قواعد أجنبية على الأراضي الإيرانية حتى لأغراض سلمية.
مخاوف إيران الداخلية
يتمحور السبب النهائي لتحذير إيران من الاستفتاء حول سكانها الأكراد، الذين يبلغ عددهم حوالى سبعة ملايين نسمة، ويتركزون في محافظات أذربيجان الغربية وكرمنشاه وكردستان وإيلام التي تقع غرب البلاد. وقد مرّ الأكراد الإيرانيون بفترات من العلاقات المتوترة مع الحكومة المركزية التي يتهمونها بانتهاج سياسات تمييزية وبالحرمان الاقتصادي. ولا يؤدي واقع أن أكثرية الأكراد الإيرانيين هم من السنّة إلا إلى تفاقم تهميشهم وسط المشهد السياسي الذي يسيطر عليه الشيعة في البلاد.
وعقب الاستفتاء مباشرة، أظهرت الأشرطة المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي حشوداً غفيرة في المناطق الكردية الإيرانية تحتفل في الشوارع وتلوّح بالأعلام الكردية، مما دفع طهران إلى نشر جنود بملابس مدنية من «الحرس الثوري الإسلامي» و”الوحدات الخاصة” من شرطة مكافحة الشغب في اليوم التالي هناك. وتتألف حالياً هذه الوحدات، التي توازي فرق “الأسلحة والتكتيكات الخاصة” الغربية، من تسعة أفواج في طهران وغيرها من المدن الكبيرة، بالإضافة إلى سبعٍ وعشرين كتيبة في المحافظات الأصغر، بما فيها كردستان. ويمكن نشر أي عدد من هذه الوحدات في مناطق الاضطرابات في المحافظات الكردية في وقتٍ قصير نسبياً، بدعمٍ من قوات إقليمية من «الحرس الثوري الإسلامي» و”الباسيج”.
وإذا ما حافظ القادة الإيرانيون على موقفهم المتشدد من نتائج الاستفتاء، فسيسببون خطر نشوء فراغ في النفوذ مع الأكراد على المدى الطويل، الذي يمكن أن تملأه بلدان مثل إسرائيل أو أذربيجان أو حتى سوريا. وعلى الرغم من أن بشار الأسد رفض الاستفتاء خلال لقاءٍ في 5 تشرين الأول/أكتوبر مع وفدٍ برلماني إيراني، إلا أن رد فعله كان صامتاً نسبياً. ونظراً إلى شراكته المتوترة إنما القادرة على الاستمرار مع الأكراد السوريين، ربما يقوم بإعطاء فرصة للتوصل إلى ترتيبات اقتصادية مستقبلية مع «حكومة إقليم كردستان» قد تضمنها روسيا. فقد سبق وأن بدأت موسكو بالاستثمار جدياً في قطاع الغاز والنفط العراقي الكردي. وإذا استطاعت إربيل ضمان الدعم الدبلوماسي الروسي بالإضافة إلى دعم الأسد والأكراد السوريين، فقد تكون قادرة على التحايل على المحور التركي-الإيراني-العراقي على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال، يمكن تصور أنه باستطاعة قادة «حكومة إقليم كردستان» إنشاء خط أنابيب جديد لتصدير الغاز في منطقة البحر الأبيض الأوسط عبر سوريا بعد انتهاء الحرب. وسيكون ذلك مضرّاً للأتراك إذا أوقفوا صادرات النفط الخاصة بـ«حكومة إقليم كردستان» عبر أراضيهم، كما هدد أردوغان. كما أنّ صادرات الغاز العراقية الكردية إلى أوروبا قد تقوّض طموحات طهران المتمثلة في كسب حصة من السوق الأوروبية، ناهيك عن تقليل نفوذها على سوريا.
وحتى الآن، يبدو أن إيران وتركيا والعراق تُظهر عزمها على تشديد الخناق الاقتصادي تدريجياً على «حكومة إقليم كردستان»، وربما يصل ذروته بفرض الحظر أو الحصار. كذلك، تبرز الخيارات العسكرية التي تتراوح من التدخل واسع النطاق في كركوك إلى “عمليات مكافحة الإرهاب” المشتركة في أراضي «حكومة إقليم كردستان» ضد «حزب العمال الكردستاني» والجماعات ذات الصلة. وإذا لم يتم التوصل إلى حل دبلوماسي عاجلاً وليس آجلاً، قد يؤدي الضغط المتزايد قريباً إلى أحداثٍ ذات عواقب إنسانية وخيمة على المدنيين الأكراد، فضلاً عن تداعيات سياسية جدية على الولايات المتحدة ومصالحها الإقليمية.
فرزين نديمي
معهد واشنطن