تبدو خيارات حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد محدودة إلى حد بعيد، بعد مضي أكثر من أسبوعين على الاستفتاء/ الأزمة! فالطرفان يعولان على الفاعل الإقليمي والدولي لترجيح كفة أي منهما على كفة الآخر أو فرض حل ما عليهما معا.
فالسلطات الاتحادية (مجلس النواب العراقي ومجلس الوزراء) التي يهيمن عليها الفاعل السياسي الشيعي بالمطلق، لم تستطع سوى إنفاذ قرارها الخاص بحظر الطيران الدولي في مطاري أربيل والسليمانية، ولم تستطع إنفاذ قراراتها المتعلقة بعودة القوات الأمنية للانتشار في جميع المناطق المتنازع عليها وبضمنها كركوك وفقا لما كانت عليه قبل تاريخ 10 حزيران/ يونيو 2014، و المتابعة القضائية للمسؤولين عن تنفيذ الاستفتاء ومن بينهم رئيس الإقليم، فضلا عن سائر الموظفين الكرد العاملين في مؤسسات الدولة الاتحادية وتقديمهم للمحاكمة! وغلق المنافذ الحدودية البرية، وإعادة الحقول النفطية في كركوك والمناطق المتنازع عليها إلى السلطات الاتحادية، وإقالة محافظ كركوك، واغلاق الممثليات والقنصليات الاجنبية في الإقليم، وعدم قبول الحوار المشروط إلا بعد الغاء نتائج الاستفتاء!
وبعيدا عن مدى دستورية هذه القرارات او قانونيتها، بما أن العلوية، في العراق، كانت دائما لعلاقات القوة، وقدرة الفاعل السياسي الأقوى على فرض أمر واقع يتم التواطؤ عليه فيما بعد ذلك! فإن مراجعة هذه القرارات تكشف «التدليس» الصريح الذي تمارسه كل الاطراف! فواقع الحال يقول إن قوات البيشمركة قد تمددت على المناطق المتنازع عليها، وفرضت أمرا واقعا، منذ 2003، وقد تحقق هذا التمدد بتواطؤ معلن من الفاعل السياسي الشيعي الذي كان بحاجة إلى الدعم الكردي في معادلة الصراع الثلاثية في العراق (شيعة/ سنة/ أكراد)! وما يعزز هذا انه لم يكن هناك أي وجود عسكري للقوات الاتحادية في مدينة كركوك على سبيل المثال، أو في مناطق شمال وشرق المدينة، واقتصر هذا الوجود على قوات الفرقة 12 التي كانت تنتشر في مناطق جنوب غرب المحافظة! وبالتالي، فإن واضعي القرار لم يكونوا بصدد إنفاذ الدستور العراقي طيلة هذه المرحلة والذي قرر في المادة 140 أن الحكومة الاتحادية ملزمة بتنفيذ المراحل الثلاث المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها وبضمنها كركوك (التطبيع، والاحصاء السكاني، والاستفتاء)، بما يعني أن هذه المناطق يجب ان تكون تحت سيطرة السلطة الاتحادية وليس تحت سلطة الإقليم بعد ان رسم الدستور العراقي حدود الاقليم بشكل صريح لا لبس فيه (المادة 143)، ومن ثم كان يجب ان تنتشر القوات الأمنية الاتحادية في جميع المناطق المتنازع عليها وبضمنها كركوك وفقا لما كانت عليه قبل تاريخ 19 آذار/ مارس 2003، ولكن الفاعل السياسي الشيعي الذي كان وراء إصدار هذه القرارات، لم يكن بصدد إنفاذ الدستور الذي ينادي به اليوم، بل بصدد الوصول إلى صفقة جديدة مع الإقليم!
وبموازاة العقوبات المفترضة التي قررها مجلس النواب العراقي، كانت هناك قرارات أخرى للمجلس الوزاري للأمن الوطني، وهو مجلس لا يحتكم إلى إطار دستوري او قانوني، انما ابتدعه رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي لتحييد سلطة مجلس الوزراء الذي بقي بعيدا تماما عن أزمة الاستفتاء ولم يصدر سوى قرار واحد يتعلق بحظر الطيران من وإلى مطاري أربيل والسليمانية!
على الرغم من ان الدستور العراقي لا يعطي أية صلاحيات لرئيس مجلس الوزراء منفردا، وجميع الصلاحيات الدستورية مناطة بمجلس الوزراء مجتمعا. ولكن كما قدمنا فان الدستور والقانون في العراق مجرد ادوات سياسية يستخدمها الفاعل السياسي الأقوى متى أراد، ويركنها جانبا متى ما قرر ذلك! هذا المجلس اتخذ مجموعة من القرارات كان من بينها توجيه إلى حكومة الاقليم بتسليم المنافذ الحدودية، وبضمنها المطارات، إلى الحكومة الاتحادية، ومتابعة حسابات الإقليم وحسابات المسؤولين فيه ممن تودع اموال تصدير النفط في حسابهم، ودعوة الادعاء العام لملاحقة كافة موظفي الدولة في الإقليم الذين نفذوا الاستفتاء، و قرارات لاحقة تتعلق بمتابعة تنفيذ الإجراءات المتقدمة، فضلا عن قرارات جديدة بان تكون شبكات الاتصال للهواتف النقالة بيد السلطة الاتحادية ونقلها إلى بغداد، والطلب من تركيا وإيران بغلق المنافذ الحدودية بينها وبين الإقليم لحين تسلم الحكومة الاتحادية إدارتها، وحصر التعامل فيما يتعلق بتصدير النفط بالحكومة الاتحادية حصرا. وكما هو واضح فان بعض هذه القرارات غير مفهومة تماما! فشركات الهواتف النقالة في النهاية هي شركات استثمارية وليست شركات تابعة للإقليم أو للسلطة الاتحادية من الناحية القانونية! وقد سبق لهيئة الاعلام والاتصالات أن باعت رخصة شبكات المحمول الجوال إلى ثلاث شركات هي: شركتا آسياسيل وكوريك تلكوم ومقرهما السليمانية وأربيل، وشركة زين الكويتية! فهل يمكن تخيل صدور قرار بان تكون شركة «زين» تحت السلطة الاتحادية ونقلها إلى بغداد!
بعيدا عن هذه الاجراءات العقابية وإشكالياتها الدستورية والقانونية التي لا تعني احدا في العراق، لا يبدو الموقف الإقليمي أقل غموضا! فعلى الرغم من الخطابات الصاخبة ما زالت تركيا وإيران حريصتين على عدم غلق المنافذ الحدودية البرية مع الإقليم! وهو تردد مفهوم بالنظر إلى حجم التبادل التجاري بينهما وبين الإقليم (8 مليارات دولار مع تركيا، و1.5 مليار دولا مع إيران). كما ان تجارة تركيا مع العراق ككل (12 مليار دولار) تمر عبر منافذ إقليم كردستان. وتبدو البدائل التي يطرحها البعض للاستغناء عن هذه المنافذ في التجارة مع العراق غير عملية (مثل انشاء طريق يمر عبر إيران وصولا إلى معبر سومار في ديالى)، او شبه مستحيلة (مثل انشاء طريق يمر عبر محافظة الحسكة السورية وصولا إلى جنوب سنجار)! كما ان لا إمكانية للحديث عن تدخل عسكري مباشر في كردستان العراق بأي حال من الأحوال، فقد تعلم الأتراك من درس سوريا! كما ان أي دخول تركي مفترض سيواجه بحرب استنزاف طويلة من البي كي كي الذي ينتشر بين جبال قنديل وسنجار! وإذا كان لدى إيران ادوات في العراق (معظم ميليشيا الحشد الشعبي) لتنفيذ بعض المناورات التكتيكية نظريا، إلا أن إيران لديها تحالف تاريخي واستراتيجي مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تسيطر البيشمركة التابعة له على المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى وصلاح الدين وهي مناطق تنتشر هذه الميليشيات على أطرافها، وبالتالي ليس من السهل تخيل مواجهة بين طرفين حليفين لإيران. اما شمالا في مناطق تواجد بيشمركة الحزب الوطني الديمقراطي، فالأمر ليس أقل تعقيدا، فمناطق سنجار والقوس الممتد حتى زمار، وهي مناطق متنازع عليها، تنتشر فيها قوات البي كي كي/ حزب العمال الكردستاني التركي ووحدات من البي واي دي ذات العلاقة العضوية معه، وهاتان القوتان لديهما تفاهمات مع إيران تتعلق بسوريا وتركيا وبالتالي من الصعب تخيل أي مواجهة بينهما! أما في مناطق سهل نينوى وغربها فلا وجود مؤثر لهذه المليشيات يمكنها من افتعال أي مواجهة عسكرية! أما الحديث عن تدخل عسكري إيراني مباشر فيبدو أقرب إلى العبث في ظل الموقف الأمريكي المعلن تجاه إيران!
دوليا، وعلى الرغم من الموقف المعلن المتعلق برفض الاستفتاء، فليس ثمة مواقف واضحة تجاه التصعيد الذي تمارسه بغداد على اربيل، وربما كان الموقف الفرنسي العائم المؤشر الأبرز هنا! كما أن الغموض ما يزال يلف موقف الفاعل الاكثر تأثيرا في العراق، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وما زالت ثمة شكوك حول وجود موقف غير معلن لإدارة الرئيس ترامب، يختلف عن الموقف الذي تعلنه وزارتي الخارجية والدفاع! وبالتالي فانه من الواضح ان بغداد وأربيل كلاهما يترقب الخطوة اللاحقة للولايات المتحدة، واغلب الظن ان هذا التدخل سيكون باتجاه فرض او ايجاد صفقة بديلة للصفقة التي حكمت العلاقة بين الفاعلين السياسيين الشيعي والكردي طوال سنوات ما بعد 2003.
يحيى الكبيسي
صحيفة القدس العربي