عندما دخل الروس إلى سورية، أثار تدخلهم الأمل عند قطاعات واسعة من الرأي العام السوري، بما في ذلك المؤيد للثورة، لأن سوريين كثيرين كانوا يعتقدون أن روسيا، بعكس الأسد وطهران، دولة بالمعنى الحرفي للكلمة، أي لديها، كأي دولة عريقة وراسخة، تقاليد تجعلها تستبطن في سلوكها الرسمي وعلاقاتها بغيرها، مهما كانت مواقف حكامها الظرفية، الحد الأدنى من المبادئ التي يفرضها الاشتراك في منظومة دولية واحدة، والتعامل مع دول ندّة وشعوب ذات حقوق معترف بها، وأحيانا بعض الاستقلال والسيادة، أو مفترض أنها كذلك. ومن هذه المبادئ احترام القوانين والالتزامات الدولية الأساسية التي لا يقوم من دونها أي نظام دولي، ويؤدي الاستهتار بها أو المبالغة في تجاوزها إلى تهديد الاستقرار وسيادة الدول والسلام العالمي. وهذا ما يدفع الدول إلى ضبط النفس، وتجنب ردود الأفعال العاطفية والانتقامية، ويعطي للدبلوماسية والبحث عن الحوار والمفاوضات والحلول العقلانية معنى. وهو أيضا ما يجنّبها التورط في أعمالٍ أو نشاطات ذات طبيعة إجرامية، ومخاطر الانجرار إلى سلوك العصابات أو العصبيات القبلية أو الطائفية اللاعقلانية وغير المحسوبة، ولا المقبولة سياسيا وأخلاقيا، من نوع أعمال الإبادة الجماعية أو استهداف المدنيين أو التضحية بشعب كامل من أجل تحقيق مصالح استراتيجية أو سياسية أو اقتصادية، مهما كان حجمها.
منطق الدولة ومنطق العشيرة
الدولة التي من صفاتها أن تحتكر العنف داخل حدودها، مسؤولةٌ، في المقابل، عن تقنين استخدامه داخل هذه الحدود، لكن أيضا خارجها، بعد أن أغلقت اتفاقية ويستفاليا في القرن
السابع عشر عصر الاعتراف بشرعية الفتح والغزو، وضم المناطق وإلحاقها بالقوة، أي بحق القوة في التمدد، على حسب ما تسمح لها طاقتها وحدها، كما بنيت، في الماضي، جميع الإمبراطوريات والسلطنات البائدة. وقد حاولت هذه الدول، منذ ذلك الوقت، أن تنظم نفسها، وتضبط علاقاتها بعضها ببعض، على أسس قانونية أو عقلانية، فبلورت تقاليد وأعرافا، وأقامت مؤسسة كبرى دولية هي الأمم المتحدة التي زودتها، خلال أكثر من سبعة عقود، باتفاقيات ومواثيق دولية عديدة ملزمة إلى هذا الحد أو ذاك، لكن الموجّهة دائما، وهي التي أسّست لمفهوم الشرعية الدولية، أي حدود استخدام العنف في العلاقات الدولية وخارج المجال الوطني الخاص بكل دولة. وهكذا تقارب حقل العلاقات الدولية من حقل العلاقات الوطنية الداخلية. ونشأ نتيجة ذلك مصدران للشرعية، داخلي ودولي. فكما يحوّل الاستخدام المتكرر أو المفرط للعنف خارج إطار القانون أي سلطة “وطنية” قائمة إلى سلطةٍ جائرة، وينتقص من شرعيتها، وربما ينزع هذه الأخيرة عنها فتصبح سلطة باغية، يحول استخدام العنف المفرط خارج حدودها، وفي تعاملها مع الشعوب والدول الأخرى، خارج إطار الأعراف والتقاليد والقوانين، أي الاتفاقات والمواثيق الدولية المرعية، إلى دولةٍ مارقة، ويفقدها مزايا انتمائها إلى المجموعة الدولية، فيقود إلى تقليص مجال سيادتها وممارسة حقوقها في الحماية والتعاون الدوليين، وربما أدى إلى طردها من المنظومة، ومحاصرتها وشن الحرب عليها.
لا يعني هذا أن “القانون الدولي” هو الذي ينظم في عصرنا العلاقات بين الدول أو يصنعها. فلا تزال القوة العامل الحاسم في رسم خريطة هذه العلاقات وهندستها. لكنه يضيّق من هامش مناورة الدول الكبرى، ويضع في وجهها عراقيل كي لا تفرط في استخدام القوة، ويقدم للدول الأضعف مرجعية تعتمد عليها لإيجاد الحلول المتفاوض عليها في ما بينها أساسا، ومع الدول الكبرى. لا يمنع هذا “النظام الدولي” الذي لا يزال بحاجة إلى قوة مستقلة تحميه وتطبقه الدول القوية، وروسيا منها، من أن تنزع إلى استخدام القوة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتعظيم مكاسبها وتعزيز موقعها ومكانتها ودورها في وضع أجندة السياسة الدولية، ولا يستطيع أحد أن يحول دون ذلك، ما لم يملك هو أيضا قوة مماثلة، إلا أنه يساهم في وضع معايير لمجازاة القوة، وفي رسم حدودٍ للسماح باستخدام العنف والمراهنة عليه، لتحقيق مكاسب أو مصالح مادية أو استراتيجية، كما يفرض ثمنا، ماديا ومعنويا، لمثل هذا التطرّف في استخدام العنف، حتى عندما يصدر عن قوى كبرى أو دول قوية. ونتيجة ذلك، وفي حالاتٍ كثيرة، بدل أن يعجّل العنف الأعمى، كما يعتقد أصحابه، في حسم النزاعات وربحها، تزيد المراهنة عليه من تأجيجها. إذ يكاد يكون من المستحيل، في عصرنا الراهن، حيث أصبح العالم قريةً صغيرة كما يقال عن حق، وزاد الاعتقاد بوحدة المصير الإنساني ومساواة الشعوب الأخلاقية، النجاح في تسوية أي نزاعٍ من خلال تكبيد الطرف الآخر هزيمةً كاملة أو سحقه وإعدامه، كما كان يحصل في ما قبل نشوء الدولة الحديثة ومفهومها وتعميمها، وعلى قاعدة تطبيق قانون الصراع القبلي والطائفي والعصبوي. ليس هناك شعبٌ أو حتى جماعة صغيرة تقبل اليوم أن تعامل حسب هذا القانون، وتتخلى بإرادتها عن قانون السياسة ومنطق المساواة والعدالة والتفاوض على مصالح مشتركة ومتبادلة. هذه هي أعراف العصر وتقاليده المستمدة من مفاهيم الدولة والسيادة وحقوق الشعوب والجماعات الطبيعية والثابتة. النظام
سلام المقابر الروسي
ما تقوم بها موسكو في مشاركتها الأسد في حملته الصليبية ضد الشعب السوري، ودفاعها عن بقائه حتى آخر سوري، وحمايته من المساءلة عن الجرائم الكبرى والمتواصلة التي يرتكبها هرباً من العدالة المحتملة، لا يقوّض صدقية الدولة الروسية، بوصفها دولةً تنتمي إلى الأمم المتحدة وقيم العصر وسياساته فحسب، وإنما يجعلها تخسر معركتها الكبيرة، من أجل استعادة دورها قوة عالمية وشريكاً إيجابياً وأساسياً في ترتيب الأوضاع الدولية، وضمان الاستقرار العالمي والأمن الدولي الجماعي.
موقف روسيا في سورية، واندفاعها الكبير والحماسي لكسر إرادة الشعب السوري والفت من عزيمته، وحرمانه من حقه في انتزاع حريته، في مواجهة نظام قاتل عزلته المجموعة الدولية برمتها، قد عرّاها تماما أمام نفسها والعالم، ولم يخدم قضيتها. وأنا متأكد من أنها ستخرج من المحرقة السورية، التي نظمها الأسد لشعبه ولشعوب المنطقة، انتقاما لمطالبته بالرحيل عن الحكم، والتي انخرطت موسكو فيها معه، انتقاما من الغرب وتهميشه لها، واستبعادها من مائدة تقاسم مناطق النفوذ في العراق وليبيا، أضعف مما كانت عندما دخلت فيها، وأكثر عزلةً وهزالا سياسيا وأخلاقيا. وبدل أن يخدمها استعراض القوة ضد الشعب السوري الأعزل، واختبار أسلحتها الجديدة وقوتها العسكرية والنارية المتزايدة، على جسد الأطفال السوريين الأبرياء، لإعادة موضعة نفسها قوة عظمى، وانتزاع تأييد الشعوب الضعيفة والفقيرة التي تتطلع إلى قطبٍ يعينها على مواجهة سياسة الغرب التسلطية، والجائرة أيضا، على مستوى العلاقات الدولية، سوف يزيد الدور السلبي واللاإنساني واللاأخلاقي الذي قامت به في سورية من عزلتها، ومن تشكيك الشعوب والدول بها وخوفها منها، وربما التطلع من جديد إلى الحماية الغربية والتمسّك بها كأهون الشرين.
ما تقوم به روسيا، منذ بداية الثورة السورية والأزمة التي ولدت منها، والرهان الوحيد الذي وضعته على الأسد سياسيا، وعلى العنف وسحق الطرف الآخر بكل الوسائل، واستخدام جميع المبرّرات وعدم الاعتبار لأي قيمة إنسانية أو قانونية، أو لأي مبدأ أو عاطفة، قد أفقدها أي شرعيةٍ لتمارس دور الوسيط في النزاعات الدولية، فما بالك بدور المخلص والمسهل والمنقذ، وحولها إلى قوة احتلال من النوع ذاته الذي يمثله احتلال الأسد وطهران مدن سورية ومناطقها المختلفة.
كيف يمكن لدولةٍ تستميت في الدفاع عن مجرمين متهمين علنا بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتعطل القانون الدولي والإجماع العالمي من أجل حمايتهم، أن تكون وسيطا في مفاوضات الحل السياسي في سورية، أو أن تستفرد بصناعة هذا الحل؟ وكيف يمكن لها أن تساعد على إيصال الأطراف إلى حل ممكن ومقبول من الجميع، إذا كانت لا تترك فرصةً، ولا مناسبةً، من دون الإفصاح عن عدائها لأي حل يضمن للشعب السوري التمتع بالحد الأدنى من حقوقه الطبيعية، واصطفافها وراء نظامٍ أعلن الحرب على شعبه، وقوّض الدولة ودمر مؤسساتها، واستبدل بها مليشيات طائفية محلية وأجنبية لمحاربته؟
وكيف يمكن لدولةٍ استخدمت الفيتو عشر مراتٍ لتعطيل قرارات الأمم المتحدة في المسألة السورية، ورفضت أي قرارٍ لا يضمن بقاء الأسد ونظامه الدموي في السلطة، ووقفت ضد إرادة السوريين أو أغلبيتهم، وإرادة المجتمع الدولي ذاتها، أن تدّعي العمل من أجل سورية ومصلحة شعبها، ولصالح السلام والاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي؟
بدل أن تنهي الحرب، كما يدّعي صانعوها، مدت السياسة الروسية الكارثية في أمدها، وحولتها إلى حربٍ لا مخرج منها. وبدل أن ترتقي بأسلوب معالجتها، كما كانت تحلم، إلى مصاف الدول الكبرى، الصانعة للسلام، وتحظى بالصدقية والمكانة الدولية التي تنشدها، وضعت نفسها، بدفاعها المستميت عن عصابة قتلة، وسعيها الدائب إلى التغطية على جريمة الإبادة الجماعية، في موقع المتهم، وتحولت إلى شريك رئيسي في المسؤولية عنها.
دبلوماسية لافروف المستعجلة
ربما لم تخسر ولن تخسر روسيا الحرب في سورية عسكريا، أو ليس بعد، لكنها خسرتها سياسيا وأخلاقيا. خسرت أولا معركتها للعودة الظافرة من الباب السوري إلى المجتمع الدولي دولة فاعلة وقادرة على تحقيق السلام، ومدعومةً بتعاطف قطاعاتٍ من الرأي العام، ومن الشعوب التي ملت سياسات التمييز الغربية. والسبب ببساطة أنها انساقت وراء أهواء الانتقام سياسة دولية إيجابية، واعتبرت أن مقارعة الغرب الذي أهانها واضطهدها منذ عقود طويلة، ولا يزال يسعى إلى محاصرتها، واستبعادها من دائرة النفوذ الدولي، وهذه حقيقة، يبرّر لها كل شيء، بما في ذلك تدمير أوطان شعوب أخرى، وإبادة ساكنتها، ويعفيها من أي مسؤولية. جرت وراء وهم السياسة ذاتها الذي دفع طهران من قبل، في سعيها إلى فكّ الحصار عنها، إلى اجتياح الدول المحيطة بها وتدميرها وتفكيك نسجها الوطنية، على سبيل استعراض القوة وإقناع الغرب الذي يحاصرها بمقدرتها على تهديد مصالحه الكبيرة الموجودة فيها، وبتحويل هذه الدول إلى أرضٍ خراب، وساحات مشرعة للفوضى والعنف والدمار والإرهاب.
ولو خفف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من غلوائه وعنجهية خطابه، وغلب منطق الحكمة على روح التحدّي والانتقام، وحاول أن يتفهم، بالحد الأدنى، قضية الأطراف السورية الأخرى، وينظر في مصالحها وتطلعاتها، ربما كانت روسيا قد حققت أهدافها، ونجحت في وضع حدٍّ للحرب، وتجنب الكارثة السورية منذ سنوات طويلة، وجنّبت أيضا السوريين والعالم نتائجها. ومهما كان الحال، ما كانت روسيا ستجد نفسها في المستنقع العسكري والسياسي والأخلاقي الذي تجد نفسها فيه الآن، رهينة الحسابات الشيطانية للبابوية الإيرانية ومشاريعها القروسطية المتجدّدة، ولا لهلوسات “رئيس” دموي ونظام أمني همجي.
ليس من المقبول لدولةٍ كبرى بحجم روسيا، وهي دولة قوية، وتقع عليها، بسبب هذه القوة بالذات، مسؤولياتٌ دوليةٌ جسيمة، أن تسمح لنفسها بأن تتورّط، مهما كانت الحسابات، في التضحية بشعبٍ كامل، وتدمير وطنه ومستقبله، ولا أن ترهن قوتها، مهما كان الثمن أيضا، للدفاع عن مجرم حربٍ صغير، وحماية عدو للإنسانية من أي مساءلةٍ قانونية أو محاسبة سياسية أو عدالة.
ليست سورية وحدها، بما فيها من حضارة وشعب، هي التي ذهبت ضحية جنون القوة وعرس الدم اللذيْن استبدا برئيسٍ أحمق، ومدّعي أبوية جديدة موهومة ومزيفة في طهران، اكتشف للتو سطوته السياسية، مسكون بهاجس الشهادة والموت والنصر الإلهي.
روسيا أيضا وقعت في الفخ. وهذه هي لعنة سورية التي ستلاحق الجميع، من شارك ومن أيد ومن صمت أو اختار الهرب من المسؤولية والنأي بالنفس.
برهان غليون
صحيفة العربي الجديد