قبل أكثر من عامين فوجئ رواد شارع المتنبي الثقافي في بغداد بمنظر فتاة تقف أمام “بسطية” على الرصيف لبيع الكتب، في مشهد لم يألفه العراقيون من قبل. كانت هذه الفتاة هي براء البياتي، الشابة العشرينية التي أصبحت أول امرأة تمتلك دار نشر في العراق.
من بائعة كتب على رصيف شارع المتنبي إلى صاحبة دار نشر فيه، هكذا يمكن اختصار مشوار براء البياتي التي كسرت احتكار الذكور لمهنة بيع الكتاب وطباعته.
وفي ركن بنهاية الشارع الشهير تقع دار ومكتبة “براء”.. تقف براء هناك لتستقبل الراغبين في شراء الكتب أو طباعتها، تقول إن أسعارها تختلف نسبيا عن السوق، وهي تحاول جهد الإمكان دعم الشباب الراغبين في الولوج إلى عالم الكتابة.
وفي بلد يعج بالصراعات السياسية والمذهبية، قررت الناشرة الشابة ألا تطبع كتبا دينية أو سياسية، رغبة منها في البعد عن إثارة الحساسيات والمشاكل، كما أنها ترفض طباعة الأعمال ذات المضمون “الضعيف” أيضا.
وصباح كل جمعة حيث يقام مهرجان المتنبي الثقافي، يتحلق شبان وفتيات حول براء البياتي التي يعتبرها الكثير منهم مصدر إلهام، فقد كسرت تابوها عصيا في بلد ما زالت القيم العشائرية تتحكم بتقاليده.
قالت براء للجزيرة نت إنها بدأت العمل متطوعة بلا أجر في دار نشر “سطور”، ثم قررت أن تبيع الكتب على الرصيف كل جمعة، وقد كانت ردود معظم من تعاطوا معها إيجابية.
دار نشر
كانت الخطوة التالية التي سعت إليها براء هي استئجار محل لبيع الكتب قبل نحو عام، ثم قررت المغامرة بالدخول إلى عالم النشر.
ورغم أن الدار لا تزال في بداياتها، فقد استطاعت براء طباعة ستة عناوين في مجالات الشعر والرواية والتقنية، وهناك أربعة أخرى لا تزال تحت التنقيح استعدادا لدفعها إلى المطابع، كما تقول.
قد شجعت هذه التجربة العديد من الفتيات لدخول هذا المجال وغيره، فأصبحت القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي تتناقل صورا وأخبارا عن فتيات يبعن الكتب، أو ينشطن في مهن وأعمال كانت حكرا على الرجال.
وبين رفوف خشبية وأكداس الكتب على الأرض، تواصل سجى حامد (23 عاما) استعداداتها لافتتاح مكتبتها في منطقة المنصور غربي بغداد، يعاونها في ذلك بعض صديقاتها اللواتي يقتطعن من أوقاتهن بضع ساعات يوميا للمساعدة في إنجاز هذا المشروع الذي يعتبرنه حلم حياتهن.
ولا تفكر سجى في جعل المكتبة مقتصرة على بيع الكتب، بل تحلم بجعلها مركزا ثقافيا صغيرا يلتقي فيه أصدقاؤها للتباحث في الشأن الثقافي، وتؤكد أن تجربة براء البياتي كانت ملهمة لها في تجاوز “خطوط حمراء” كثيرة كانت تخشى الاقتراب منها.
تحديات ومخاوف
هذه التجربة الفريدة من نوعها في العراق، دفعت العديد من المؤسسات والشخصيات العامة للاحتفاء بصاحبتها ودعمها إعلاميا، كما أنها تلقت دعوات للمشاركة في مهرجانات داخل العراق وخارجه للحديث عن تجربتها للجمهور.
وتعيد براء البياتي إلى الأذهان سيرة العراقية شرقية الراوي (1942-2017) التي كانت أول امرأة تدير مكتبة في العراق الحديث، بالإضافة إلى صالون ثقافي شهير، وقتها كانت للمرأة العراقية مكانة مرموقة في المجتمع، ولها تأثير سياسي وثقافي واجتماعي كبير، كما قال صاحب دار نشر “سطور” ستار محسن.
ويرى محسن أن الأحزاب التي تحكم البلاد حاليا ساهمت في سحق المرأة العراقية عبر أنظمة وتشريعات زاوجت بين بعض الرؤى الفقهية “الضيقة” والتقاليد العشائرية، حتى أصبح البرلمان العراقي اليوم يناقش قضية زواج القاصرات لتشريعها ضمن قانون الأحوال الشخصية.
ورغم أن سوق الكتاب بخير في العراق كما يعتقد محسن، فإن أصحاب بعض الاتجاهات السياسية والدينية ما زالوا يسعون لمنع تداول كتب يعتبرونها مخالفة لمعتقداتهم، حتى تلك المتعلقة بالشعر والرواية، كدواوين نزار قباني وروايات نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي.
وقال الناشر الذي أشرف على عشرات معارض الكتاب داخل العراق، إن الجمهور العراقي متعطش للمعرفة، لا سيما بعد الأزمات والهزات الفكرية والسياسية التي أصابته، وهو ما انعكس إيجابا على سوق الكتاب في السنوات الأخيرة.
المصدر : الجزيرة