في هذا المنعطف الراهن، ما من سبيل عملي للقوات الثورية السورية ولا للمعارضة للفوز بالحرب بمفردهم. يتطلب إنقاذ سوريا تعاونًا دوليًا عبر تنفيذ خطّةٍ فعالة لإنهاء الأزمة. ولذلك، فان أفضل السبل للمضي قدماً هو أن تقوم الولايات المتحدة بالدخول في تحالفٍ تكتيكي مع روسيا وإيران، وهما دولتان تتمتعان بأكبر قدر من النفوذ حاليًا في الحرب السورية. ولكن ينبغي أن يتوقف إنقاذ سوريا وإعادة إعمارها على إزالة عائلة الأسد وشركائه من الحكم لحماية المدنيين وإلحاق الهزيمة بالإرهابيين الإسلاميين.
الإرهاب هو العارض وليس السبب
في خلال العقد المنصرم، دعا نظام بشار الأسد إلى الإصلاح في سوريا. ولكن أدّى فشله في تنفيذ هذه الإصلاحات السياسية والمؤسسية والاقتصادية إلى اندلاع الثورة والحرب الأهلية في آذار/ مارس 2011. وفي تلك الفترة، كان أربعون في المئة من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر وأكثر من خمسة وعشرين في المئة من الشبان عاطلون عن العمل. ونتيجة لذلك، هاجر الكثير من السوريين إلى البلدان المجاورة بحثًا عن عمل وعن حياة أفضل. ومنذ اندلاع الثورة، ادّعى نظام الأسد أنّ المتظاهرين السلميين، ومعظمهم من الأطفال والشباب الذين يطالبون بالحرية، هم “إرهابيون”. والرسالة التي أرسلها إلى المجتمع الدولي هي أنّ الخيار هو بقاء الأسد في السلطة وإلاّ سيقوم ما يسمى بـ “الإرهابيين” بإدارة البلاد. وتمكّن الأسد من أن يخدع الكثيرين ويجعلهم يتصورون أنّه أهوَن الشرَين مقارنةً بـتنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”. ولأنّ المتظاهرين الأصليين لم يكونوا في الواقع إرهابيين، كان على النظام أن يشكّل تهديدًا. وبالتالي لإنشاء هذه النبوءة التي تحقّقت، قام النظام في عام 2011 بإطلاق سراح والعفو عن مقاتلين سوريين أجانب سابقين قاتلوا مع تنظيم “القاعدة” في العراق، وهو سلف تنظيم “الدولة الإسلامية”، في العقد الماضي من سجن صيدنايا السيئ السمعة في دمشق. وهؤلاء هم الأشخاص عينهم الذين قد ساعدهم النظام في الانضمام إلى المعركة مع تنظيم “القاعدة” ضدّ الولايات المتحدة لردع حملة “الحرب ضدّ الإرهاب” التي تقودها أمريكا من الوصول إلى سوريا.
وأدّى إدخال هؤلاء المتطرفين في حركة الاحتجاج في بداية الثورة السورية إلى تطرف عناصر من جماعات الثوار. وفي الوقت عينه، قمع جيش الأسد المتظاهرين السلميين والثوار المعتدلين. وبهذه الطريقة، استمر بقاء النظام مع استهداف الجماعات المتطرفة للثوار وإفراغ المعارضة المشروعة لنظام الأسد وحكومته من مضمونها. علاوةً على ذلك، وفقًا لوزارة الخارجية الأميركية التي أدرجت سوريا في قائمتها للدول الراعية للإرهاب منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، إنّ “وعي سوريا وتشجيعها لعدة سنوات لعبور المتطرفين العنيفين عبرها لدخول العراق بهدف محاربة قوات التحالف موثّق جيدًا”. وهذه هي الشبكات التي “أصبحت منبتًا للعناصر المتطرفة والعنيفة بما فيها تنظيم “الدولة الإسلامية”، والتي أرهبت السكان السوريين والعراقيين”. وقد تلاعب نظام الأسد بالإرهاب واستغلّه لصالحه، سواء عبر تصديره إلى الخارج أو احتضانه محلّيًا. ولذلك فإنّ استعادة الأطراف الفاعلة الرئيسية المنخرطة في هذه السياسات من نظام الأسد من أجل إنقاذ سوريا يكافئهم على التسبّب بعدم الاستقرار الذي لم يؤثر على العراق وسوريا فحسب، بل على مناطق كثيرة من العالم.
مصادر قوة الأسد
في ظلّ غياب آليات ديمقراطية، تميل الأنظمة الديكتاتورية إلى تشكيل تحالفات مع الحكّام ذوي التفكير المماثل من أجل البقاء، ولاسيّما عندما تواجه اضطرابات محلية في بلدانها. ولذلك، اعتمد نظام الأسد على روسيا وإيران لدعمه ماليًا وعسكريًا وسياسيًا ضدّ جميع أشكال الأخصام المحليين. ونتيجةً غياب الولايات المتحدة، استغلّت روسيا هذا الفراغ في السلطة لخدمة مصالحها الخاصة وتغيير الديناميكيات في سوريا لصالحها. وبالمثل، وافقت إيران مع ميليشياتها الشيعية و”حزب الله” اللبناني على تقديم المساعدة إلى الأسد ضد الثوار بسبب ضعف أداء قتال النظام. فأدّى ذلك إلى زيادة الطابع الطائفي على الحرب وتطرف المعارضة وتحريك دول الخليج برامجها الجيوسياسية الطائفية الخاصة للمساعدة في تمويل ما كان عنصرا هامشيًا متطرفًا من طيف المتمردين. وهكذا، ازدهر الجهاديون في سوريا مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” والجماعات التابعة لتنظيم “القاعدة”. ومن دون الكثير من الدعم الدولي والقيادة الأمريكية، هرب مع الوقت عدد كبير من الثوار المعتدلين فقد هزمهم الجهاديون أو أُجبروهم على الانضمام إلى العناصر المتطرفة بسبب نقص الخيارات البديلة والأموال. وأسفر التقاعس عن اتّخاذ أي إجراء إلى تضاعف عدد المتطرفين على مرّ السنين، مما سبب حالة من التشويش بين المعتدلين والمتطرفين، وعزّز ادّعاءات الأسد: هو أو الإرهابيون في سوريا.
لماذا تختلف سوريا عن العراق
في حين كانت حكومة أمريكا وشعبها مترددين إزاء التدخل في سوريا نتيجة ذكرى سنوات الحرب الطويلة في العراق، إلا أنه يجدر تسليط الضوء على الاختلافات بين العراق وسوريا قبل نهاية الحرب وبعدها. أوّلًا، كانت الحرب العراقية تدخلًا أجنبيًا متعلّقًا بالجغرافيا السياسية لما بعد أحداث 11 أيلول وثأر شخصي لجورج و. بوش وحركة المحافظين الجدد. إلا أن ما حدث في سوريا كان انتفاضةً جماهرية شعبية شرعية تدعو إلى الإطاحة بنظام الأسد. ثانيًا، ليست الولايات المتحدة الوحيدة التي تدين النظام السوري وتدعو إلى تنحّي الأسد، فبلدان المنطقة بما في ذلك تركيا والأردن والسعودية حثّتها على مرّ السنين على التدخل دبلوماسيًا وعسكريًا خشية من أنه بدون وجود تعاون دولي لإسقاط نظام الأسد ستنتشر الأزمة في نهاية المطاف في المنطقة بأسرها. ثالثًا، قرأت إدارة أوباما بشكل خاطئٍ تاريخ حرب العراق. وبخلاف أحد مبررات غزو العراق — أسلحة الدمار الشامل، وجد البيت الأبيض برئاسة أوباما أدلةً مستفيضة متعلّقة باستخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين. وهذا ما أكّده محققو الأمم المتحدة الذين قدموا هذه النتائج على مر السنين إلى المجتمع الدولي. ولذلك، هناك حجة أكثر شرعية مبنية على المعايير الدولية لردع استخدام أسلحة الدمار الشامل في المستقبل. رابعًا، مع اكتساب الجماعات الإرهابية الإسلامية أراضٍ في سوريا، ارتفعت التهديدات للأمن الإقليمي والعالمي أكثر من أي وقتٍ مضى. خامسًا، يُعتبر تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين والأزمة الإنسانية الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. وأخيرًا، يجري التدخل العسكري في سوريا عبر التعاون مع حلفاء إقليميين بالإضافة إلى القوات الكردية المحلية. فعلى سبيل المثال، إنّ القوات الأمريكية موجودة في شمال وشرق سوريا لدعم “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو تحالف بين الأكراد والعرب والآشوريين ضدّ تنظيم “الدولة الإسلامية”. بالإضافة إلى ذلك، إن الضربات الجوية المستمرة التي تستهدف نظام الأسد والجماعات التابعة له والجماعات الإرهابية مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” هي نوع من التدخل المختلف عن التدخل في العراق في عام 2003.
خطر زيادة التوسع الإيراني
يعتمد نظام الأسد أكثر من أي وقتٍ مضى على إيران التي قادت “المجلس الاستشاري الثوري” عام 2015 لإصدار بيانٍ يفيد بأن إيران تحتلّ سوريا. وحتى اليوم، يعود تورّط إيران في سوريا بشكلٍ رئيسي إلى هدفها المتمثّل بتحدّي أخصامها في الخليج من خلال الهيمنة على دولة عربية. وتقوم إيران ببناء التحالفات مع الحوثيين في اليمن والأحزاب الشيعية في البحرين، وتشدّد قبضتها على العراق. ومن شأن كل ذلك أن يدفع السعودية إلى الردّ من خلال تشجيع المزيد من المتطرفين، مما يتعارض مع المصالح الأمريكية والروسية. واضطلعت الشبكات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا بدورٍ رئيسيٍ في تطرّف شريحة من السكان السوريين وكانت السبب الأساسي الذي دفع المقاتلين السنّة الأجانب إلى الذهاب إلى سوريا. ونتيجةً لذلك، لم يكن أمام الجماعات الثورية المعتدلة السنية خيارات سوى أن يُقتلوا أو أن ينضموا إلى المتطرفين في المعركة ضدّ الأسد والمليشيات الشيعية الإيرانية. وما زاد الوضع سوءًا هو غياب القيادة الأمريكية في هذه الأوقات الحرجة. فاعتقد الكثير من السنّة داخل سوريا أنّ الولايات المتحدة تقف إلى جانب نظام الأسد وإيران. ولذلك، فإنّ دعم نظام الأسد لن يُنقذ سوريا، بل فسيستمر الإرهابيون الإسلاميون في الازدهار.
التعاون الأمريكي-الروسي
كانت الولايات المتّحدة وروسيا تتفاوضان طيلة فترة الأزمة حول كيفية مكافحة الإرهاب في سوريا بصورةٍ مشتركة من خلال استهداف الإرهابيين الإسلاميين بشكلٍ أساسي مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، وهي جماعة تابعة لتنظيم “القاعدة” في إدلب. ويطمح البلَدان إلى إضعاف العناصر المتطرفة العنيفة وتدميرها في نهاية المطاف من أجل فتح الباب أمام مفاوضات سلام فعّالة وتحول سياسي محتمل في دمشق. ولدفع روسيا إلى التعاون مع الولايات المتحدة بشكلٍ فعال، ينبغي أن يتفق الطرفان على مستقبل الأسد بناءً على ومع الإحترام لرغبة الشعب السوري وكفاحه المشروع على مدى السنوات الست الماضية للإطاحة بديكتاتور وحشي كبشار الأسد. بالنسبة إلى روسيا، إنّ الأسد رابط ضعيف وبما أنّ بوتين مهتم بشكلٍ أساسي بتأمين استثمارات بلاده وقواعدها العسكرية في المنطقة الساحلية السورية، فيمكن منح الأسد عفوًا لمغادرة سوريا والسماح لحكومة مؤقتة تتألف من المعارضة المدنية السورية – داخل البلد وخارجها- أن تتسلم الحكم خلال المرحلة الانتقالية. لكن ينبغي أن تكون هذه الهيئة المؤقتة مستعدةً للتفاوض مع روسيا مقابل السماح للأسد بالمغادرة. ومن الضروري أيضًا عدم استبعاد أو إقالة المسؤولين والموظفين في الحكومة السورية من العملية الانتقالية، الذين لديهم دراية بالنظام السياسي للدولة، وليسوا متورطين بأعمال قتل وعلى استعداد للتفاوض بشأن تحول سلمي. ومن شأن العمل مع المعتدلين لإنقاذ البنية التحتية المؤسسية في دمشق أن يحول دون سقوط الدولة بشكلٍ كامل.
علاوةً على ذلك، ناشدت الولايات المتحدة مرارًا بضرورة تنحي الأسد، وتتمتع الحكومة الروسية بالنفوذ لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من أن الكثير من السوريين يريدون رؤية الأسد في السجن يُحاكم كمجرم حرب، إن الخيار الأكثر قابليةً للتطبيق في المرحلة الراهنة هو منحه العفو وتأمين خروجه من سوريا. وبهذه الطريقة، سيتم احتواء الغضب بين غالبية السكان السنّة، وستُتاح الفرصة للطائفة العلوية للمشاركة في انتخابات نزيهة وحرة تحت المراقبة الدولية. وإذا لم يتنحَّ الأسد ويغادر سوريا، لن يستمر الإرهاب في تشكيل مشكلة في البلاد والمنطقة وحتى في العالم فحسب، بل سيواجه المجتمع الدولي خطر مذبحة جماعية أخرى بحقّ المدنيين الذين دعوا إلى الإطاحة بالنظام في عام 2011. وإذا استمر الأسد في السلطة، لن يكون هناك مفر من وقوع مجزرة إضافية لأن النظام ينتظر الانتقام بشراسة من كل من وقف ضده. وبالمثل، ستواجه الطائفة العلوية المزيد من التهديدات من السنّة الغاضبين والذين يشعرون بخيانة المجتمع الدولي لهم.
ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الأقلية العلوية ليست متراصّة، وكانت هناك عدة علامات على الاقتتال الداخلي في عشيرة الأسد المقرّبة، وهناك استياء متزايد بين العلويين الذي ينتمي الكثير منهم إلى الجيش وجهاز أمن الدولة. وفي الواقع، إن العلويين الذين يريدون رؤية نهاية نظام الأسد قد تغلبوا على خوفهم. ومن الصواب لو تقوم الولايات المتحدة وروسيا بإيلاء الاهتمام لهذه الشروخ بين عائلات نظام الأسد وشركائهم في دمشق، فضلًا عن الجماعات المناهضة للأسد المقيمة في المنطقة الساحلية على طول البحر الأبيض المتوسط.
إنهاء سفك الدماء
من خلال تحالفٍ قوي ونزيه بين الولايات المتحدة وروسيا، يمكن الضغط على إيران للتعاون لوقف عدوانها وتدخلها في الشؤون الداخلية السورية. بالإضافة إلى ذلك، من شأن تحالفٍ أميركي-روسي تحت إشراف الأمم المتحدة أن يسهّل نزع السلاح وإعادة دمج الجماعات المسلحة في المجتمع السوري لانهاء التشرذم والإرهاب وتهديدات المسلحين للمدنيين بشكل تدريجي، ومن ثم القضاء عليها. فينبغي أن تكون مكافحة التطرف معركةً ضد نظام الأسد في سوريا، وهو نظام صنفته الولايات المتحدة كراعي وممكّن للإرهاب. ويجب أن نتذكر أن الصراع في سوريا قد وصل إلى هذه المرحلة من التعقيد نتيجةً لسياسات الأسد من أجل البقاء. وقد أدّى فشل الولايات المتحدة في العمل بحزمٍ أكبر إلى مفاقمة الأزمة في سوريا وفي الخارج. ومع ذلك، لم يفت الأوان بعد لتغيير الوضع على الأرض إلى الاتجاه الصحيح.
علا عبدالحميد الرفاعي
معهد واشنطن