كثر الحديث خلال هذه السنة عن العملة الافتراضية «بيتكوين»، خصوصاً بعد الارتفاع القياسي والمتسارع في قيمتها، والذي ناهز في بعض الأوقات عتبة العشرين ألف دولار للوحدة. وعلى رغم التقلبات السريعة في قيمة هذه العملة، إضافة إلى الانتقادات الشديدة التي تواجهها، إلا أن هذا الارتفاع شجع المستثمرين على المخاطرة في سبيل تحقيق الأرباح السريعة.
وافتتحت العملة المشفرة السنة بمستوى قياسي آنذاك، عند حاجز الألف دولار، لتبدأ بعدها سلسلة الارتفاعات حتى وصلت قيمتها إلى أكثر من 18 ألف دولار حتى 21 من الشهر الجاري.
وعلى رغم هذا الارتفاع، لا تزال شهية المستثمرين مفتوحة على المخاطرة، إذ تحظى هذه العملة، والعملات الافتراضية عموماً، باهتمام كبير وإقبال كثيف، كان سبباً رئيساً في ارتفاع الأسعار. وتحدد السوق وحدها تقلب الأسعار، إذ تخضع هذه العملة إلى قوانين العرض والطلب في شكل رئيس. فكلما ارتفع الطلب عليها، ازداد السعر، في حين أن انخفاض الطلب يؤدي بطبيعة الحال إلى انخفاض في الأسعار. إلا أن العرض لا يلعب دوراً بالغ الأثر في تحديد السعر أيضاً، خصوصاً أن العرض محدود عالمياً ولا يمكن زيادة المعروض على غرار العملات الأخرى، إذ ينتهي استخراج «البيتكوين» عام 2140، عند 21 مليون وحدة.
ونظراً إلى أن العرض محدود، فإن الطلب هو العامل الأبرز في تحديد السعر، وتلعب عوامل عدة دوراً أساسياً في تغيير طبيعة الطلب على هذه العملة ونمطه، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تقلبات شديدة في الأسعار.
ولكن نسبة هذه التقلبات تُعتبر من الأخطر، إذ ارتفعت العملة منذ مطلع العام أكثر من 15 ضعفاً، في حين أنها خسرت في مناسبات عدة بين 15 و20 في المئة من قيمتها في ساعات قليلة.
ونظراً إلى غياب أي عنصر من عناصر الرقابة، واستحالة معرفة الأشخاص الذين يمتلكون «بيتكوين» أو أيّ من العملات الافتراضية، أصبحت هذه العملة وسيلة ناجعة لتهريب رؤوس الأموال في بلدان تشدد على حركة خروجها. إذ ارتفعت قيمة العملة في شكل واضح خلال العام الماضي بعد تشديد الصين القيود على حركة رؤوس الأموال، كما ارتفعت عام 2013 بعدما فرضت قبرص في آذار (مارس) ضريبة على الحسابات المصرفية فوق الـ100 ألف يورو، ما دفع أصحابها إلى شراء «البيتكوين» وتحويلها إلى عملة أخرى في دول أخرى، فارتفعت قيمتها.
وتأثرت العملة وقتها أيضاً بالإجراءات التي فرضتها الهند في آب (أغسطس) من العام ذاته، على العملات الأجنبية في ظل انخفاض الروبية، ما دفع أيضاً من أراد تحويل رأسماله إلى عملات أجنبية لشراء «البيتكوين».
وفي مثال أكثر وضوحاً، نشرت وكالة «فرانس برس» تقريراً عن هذه العملة، تضمن مقابلة مع ريمي كوكس الذي استثمر فيها وفي العملتين المشفرتين «إثيريوم» و «لايتكوين». وقال أستاذ علم الوراثة في جامعة نيويورك، إنه فعل ذلك لـ «إعادة أموالي إلى فرنسا وعدم دفع الرسوم»، معرباً عن الاستياء لارتفاع رسوم التحويلات المصرفية.
ويملك روكس حالياً ما يعادل 20 ألف دولار بالعملات المشفرة، أي ثلاثة أضعاف ما استثمره في البدء تقريباً. وتعد هذه نقطة بالغة الأهمية في نظام «البيتكوين» والعملات الافتراضية عموماً، إذ تُلغي هذه العملة نظام التحويلات المصرفية التي تحتاج إلى الوقت والمال، خصوصاً أن عمليات التحويل بين الأفراد باستعمال هذه العملات لا يحتاج إلى الكثير من الوقت، كما أنه منخفض الكلفة مقارنة بكلفة التحويلات المصرفية التي تستوفي المصارف عمولة عليها. وللإشارة، فإن سوق التحويلات المصرفية حول العالم تقدر بنحو 600 بليون دولار.
ويراهن كثر على تحول هذه العملة والعملات الافتراضية إلى عملات رئيسة تماماً كاليورو أو الدولار، خصوصاً أن شركات عدة سمحت بالدفع من خلال هذه العملة لقاء منتجاتها على غرار «مايكروسوفت» و «باي بال»، و «تيسلا» لصناعة السيارات الكهربائية. كما أخذ هذا الرأي زخماً من قرار بورصة « شيكاغو بورد أوبشينز إكستشنج» بدء التعامل بهذه العملة على عقود آجلة تسمح للمستثمر المراهنة على تقلبات أسعار العملات نزولاً أو صعوداً. كما ستسمح بورصة « شيكاغو مركانتايل إكستشينج» التداول بهذه العملة. وأتت هذه التعاملات بعدما أعطت هيئة ضابطة رئيسة لأسواق المال في الولايات المتحدة هي «كوموديتيز أند فيوتشرز ترايدينغ كوميشين» (سي أف تي سي)، الضوء الأخضر للتعامل بالـ «بيتكوين» في الأول من كانون الأول (ديسمبر)، محذرة في الوقت ذاته «من احتمال حصول تقلبات كبيرة جداً ومن خطر التعامل بهذه العقود الآجلة».
عملياً هناك طرق عدة للحصول على هذه العملة. فمع بدء التبادل بها عالمياً، أصبح هناك منصات عدة متخصصة في عمليات بيع «البيتكوين» وشرائها. ويمكن للمستثمر أن يرسل المال مباشرة إلى الشركة ليحصل في مقابله على مجموعة «بيتكوين» يستطيع التداول بها. ونظراً إلى أن هذه العملات ليست ملموسة ومادية، بالتالي فإن الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بها هي من خلال المحافظ الإلكترونية التي تؤمنها شركات عدة. وهذه العملية مشابهة إلى حد كبير للعمليات المصرفية الإلكترونية.
ولا بد هنا من الالتفات إلى أمر بالغ الخطورة، إذ عند دخول المستثمر إلى هذا العالم، يصبح خروجه منه أمراً بالغ الصعوبة، خصوصاً في حال انخفاض قيمة العملة، وبخاصة في البلدان التي تحظر التعامل بها كلبنان مثلاً. والطريقة الأساسية للحصول على هذه العملة في لبنان تتمثل في شرائها من شخص أو مؤسسة «من تحت الطاولة»، خصوصاً أن المصارف لن تقبل عملية التحويل.
وفي حال ازدادت قيمة هذه العملة أو لا، فإن عملية تحويلها إلى عملات أخرى يمكن التعامل بها في السوق، يصبح ضرباً من ضروب الخيال ما لم يتم أيضاً «من تحت الطاولة» أو في دول تسمح بهذه العملية.
أما الطريقة الأخرى فتتمثل بـالتعدين، وهي العملية الأصعب، خصوصاً أنها تتطلب مهارات معينة، إضافة إلى أن كلفتها مرتفعة جداً على الأفراد في بلدان معينة. وتتطلب عملية التعدين امتلاك حواسيب ضخمة وقوية متصلة بالإنترنت طوال الوقت، ما يعني استهلاكاً ضخماً للكهرباء أولاً إضافة إلى استهلاك للإنترنت.
وفي هذا السياق، لا بد من التنبه إلى أن عملية تزوير «البيتكوين» أو تزوير التعامل بها شبه مستحيلة، إذ تتطلب معدات أكبر وأحدث من مجموع المعدات الموجودة على الشبكة بكاملها، ما يعني أن كلفة قرصنة هذه العملة ستتعدى القيمة التي سيحصل عليها المقرصن في حال نجاحه.
إلا أن المحافظ الإلكترونية هي الجزء الأضعف في هذه المعادلة. فمع استحالة قرصنة العملية أو العملة، يلجأ قراصنة الإنترنت إلى سرقة المحافظ الإلكترونية للأشخاص من خلال استغلال بعض الثغرات الأمنية سواء في الشركة أو لدى الشخص نفسه، وتحويل هذه العملات إلى حساباتهم الشخصية من دون أن يستطيع أحد اكتشاف الفاعل نظراً إلى استحالة معرفة هوية الشخص الذي يمتلك هذه العملة.
وتتمثل الانتقادات الأخرى التي تواجه هذه العملة بأن ارتفاعها ينبئ بأنها فقاعة مالية قابلة للانفجار في أي لحظة. ويشير الخبير الاقتصادي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد بول كروغمان، إلى أن ظاهرة «البيتكوين فقاعة واضحة أكثر من فقاعة المنازل» التي كانت برأيه واضحة جداً.
تحاول حكومات عالمية كثيرة محاربة هذه العملة والعملات الافتراضية في شكل عام، إذ قد يؤدي التقلب الشديد والسريع في قيمتها إلى خسارة كبيرة في الأسواق المالية، ناهيك عن أنها تُشكل طريقة فعالة لغسل الأموال وتبييضها. والأهم مما سبق أن انتشار هذه العملة يؤدي إلى انهيار أنظمة الرقابة المالية التي يعتمدها معظم الدول لدعم اقتصاده وتثبيته.
ونظراً إلى أن السلطات لا تستطيع إنتاج «البيتكوين» أو مراقبة الأشخاص الذين يملكون هذه العملات، فإن قدرتها على الحفاظ على توازن السوق تصبح شبه معدومة، ما قد يؤدي إلى انهيار السوق في لحظة معينة، خصوصاً أنها تخضع حصراً لقوانين العرض والطلب، مع استحالة تخطي المعروض الذي سيصل إلى 21 مليون وحدة فقط.
وباختصار، لا يمكن لأحد التنبؤ بمصير «البيتكوين» واستمراريتها، ولكن التحذير من الأخطار الاقتصادية التي تصاحب تبني هذه العملة كبير ويعتمد على أسس منطقية، إلا أن الأكيد أن العملات الافتراضية وجدت لتبقى ولو في شكل مغاير للواقع الذي نعيشه اليوم، خصوصاً أن تقنية «البلوك شاين» التي تعتمد عليها هذه العملات، أثبتت بجدارة قدرتها على تأمين حل آمن وسريع وموثوق للتعاملات المالية بين الأفراد من دون وسطاء.
حسن يحيى
صحيفة الحياة اللندنية