على مدار سنوات الحرب في سوريا، كان التنافس الأميركي الروسي على مواقع النفوذ هناك جليا، فقد حسمت موسكو منذ تدخلها العسكري بهذا البلد في سبتمبر/أيلول 2015 المعالم الكبرى للمشهد السياسي والعسكري، لكن واشنطن رسمت بدورها خطوطا لوجودها الطويل الأمد.
وبرزت مجريات معركة دير الزور كمؤشر لصراع النفوذ الأميركي الروسي في سوريا، ففي وقت كانت فيه قوات النظام بإسناد روسي تندفع غرب الفرات، تقدمت قوات “سوريا الديمقراطية” المدعومة أميركيا شرقي الفرات للسيطرة على مواقع هناك قبل وصول جيش النظام إليها، ثم كان السباق نحو البوكمال على الحدود مع العراق أبلغ الشواهد على ترتيبات ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية بالمنطقة وفي عموم سوريا.
واشتد السباق على مناطق النفوذ مع انتهاء العمليات العسكرية الكبرى ضد تنظيم الدولة -خاصة في الرقة ودير الزور- وانتهاء سطوة التنظيم العسكرية في البلاد، وتراجع حدة المعارك وعودة المسارات المتعددة الحل السياسي بين جنيف وأستانا وسوتشي، بترتيب روسي تركي إيراني قوي وحضور أميركي باهت.
وهذا الغياب الأميركي عن مجريات الحل السياسي، رافقه تأكيد من البنتاغون على الحضور العسكري الدائم في سوريا “طالما دعت الضرورة لدعم شركائنا ومنع عودة الجماعات الإرهابية إلى البلد” وهو التصريح الذي أثار حفيظة موسكو التي اعتبرت الوجود الأميركي “غير شرعي ويهدد وحدة سوريا ويمثل عائقا أمام العملية السياسية”.
ويأتي هذا الخلاف بين موسكو وواشنطن والشكوك المتبادلة رغم وجود تفاهمات أمنية وعسكرية وأخرى سياسية بين البلدين حول سوريا، بما يؤشر إلى احتدام صراع النفوذ على سوريا ومستقبلها، وترتيبات الحضور العسكري في المنطقة الإستراتيجية.
وتشير التقديرات إلى أن نحو أربعة آلاف جندي أميركي وآخرين تابعين لقوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة بقيادة واشنطن يتمركزون في سوريا، وقد تطور هذا الوجود تدريجيا منذ أن بدأت واشنطن تقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية المشكلة أساسا من وحدات حماية الشعب الكردية، في أكتوبر/تشرين الأول 2014 في منبج وعين العرب (كوباني).
رهانات واشنطن
ويشير محللون إلى أن واشنطن فقدت رهانات كثيرة في الأزمة السورية خاصة على المستوى السياسي، إذ إن موسكو بدخولها القوي في الأزمة سياسيا ثم عسكريا عام 2015 مع النظام، وفي فترة انكفاء أميركي أواخر عهدة الرئيس السابق باراك أوباما وبدايات عهد دونالد ترمب، قد رسمت الملامح الكبرى للحل وشكلت التحالفات اللازمة لذلك.
وفي المقابل، لم تنجح الولايات المتحدة في الكثير من السيناريوهات المتعلقة بالأزمة السورية، سواء من خلال دعمها العسكري والمالي واللوجستي لبعض فصائل المعارضة المسلحة، أو في ضغوطها السياسية للحل من خلال مسار جنيف أو غيره، وخصوصا في صدامها السياسي مع تركيا في مسألة مساعدة “سوريا الديمقرطية” التي تعتبرها أنقرة تهديدا وجوديا على حدودها.
ومن ملامح هذا الفشل الأميركي والتسليم بالحل على غير ما تريده -كما يقول محللون- أنها أوقفت الدعم المالي والعسكري للكثير من فصائل المعارضة المسلحة سواء عبر غرفة “الموك” أو غيرها، كما أنها لم تعد تعارض عمليا بقاء بشار الأسد رئيسا، في انزياح واضح باتجاه الموقف الروسي.
وفي مقاربتها لمسار الحرب في سوريا، ركزت واشنطن في مرحلة ما على أولوية حصر التمدد الإيراني في سوريا ومحاولة منع التواصل الجغرافي بين حلفاء النظام من إيران إلى العراق فـ الضاحية الجنوبية في لبنان حيث يتركز حزب الله، وهو ما كان جليا خلال المعارك حول منطقة التنف على الحدود الأردنية السورية العراقية، حيث أقامت واشنطن قاعدة عسكرية.
وأما البعد الإستراتيجي الأساسي بالنسبة لواشنطن، فقد كان الوقف إلى جانب الأكراد، واعتبارهم حليفا ضروريا لعدم خسارة كل أوراقها في سوريا، ولضمان وجود عسكري دائم هناك، يقارع الوجود الروسي، ويضع عينه على الثروات بهذه المناطق المتصلة بغرب العراق، مما يتيح لواشنطن فرصة استمرار التواصل الميداني بين البلدين.
ووفقا للمعطيات الميدانية توجد القوات الأميركية بشكل دائم في مناطق غالبيتها ضمن مناطق خاضعة لسيطرة القوات الكردية بمحاذاة الشريط الحدودي مع تركيا، بينها قاعدة مطار رميلان الواقعة شمال شرقي مدينة القامشلي في محافظة الحسكة قرب المثلث الحدودي السوري التركي العراقي.
وطبقا لمعلومات نشرتها الصحف التركية والأميركية، تحتفظ واشنطن أيضا بوجود عسكري في قاعدة بعين العرب (كوباني) نحو 33 كيلومترا إلى الجنوب من الحدود التركية ومطار المبروكة غرب مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، ومطار روباريا قرب مدينة المالكية شمال شرقي الحسكة على الحدود مع كل من العراق وتركيا، وبمنطقة تل بيدر شمال غربي الحسكة على مقربة من الحدود التركية، إضافة إلى قاعدة تل أبيض في الرقة.
ويهدف هذا الوجود الأميركي الكثيف في المناطق الكردية إلى موازنة النفوذ الروسي في طرطوس وحميميم وغيرهما، ويعتبر بديلا احتياطيا عن قاعدة إنجرليك التركية ذات الأهمية في الحرب على الإرهاب فيما إذا تعمقت حدة الخلافات مع أنقرة، والحفاظ على التواصل مع المناطق الكردية في شمال العراق.
روسيا وأوراق الحل
وعلى عكس الولايات المتحدة المترددة، راهنت روسيا على أوراق مختلفة في سوريا راوحت بين التدخل العسكري المباشر المفضي إلى وجود طويل الأمد في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية في اللاذقية (بمقتضى اتفاق مع النظام) مع انتشار لقواتها في عدد من الجبهات إلى جانب النظام، وشرطتها العسكرية في كثير من المدن.
ورغم أن روسيا أعلنت قبل أيام سحب جزء من قواتها من سوريا، فإن وجودها العسكري القوي يبقى ثابتا، سواء في قواعدها المعلنة أو غير المعلنة، أو في مواقع وقواعد تابعة للنظام، ويأتي الإعلان عن تخفيف وجودها العسكري مؤخرا في إطار ما يحقق رؤيتها الإستراتيجية لمستقبل سوريا على المستويين العسكري والسياسي.
وحرصت روسيا -مستغلة الكثير من المتغيرات بالمنطقة والعالم- على هندسة أوراق الحل السياسي بما يتوافق مع أهدافها بالحفاظ على النظام ولو مرحليا، وهي بذلك تثبّت مسارات الحل البديلة لجنيف وبمشاركة طيف أوسع من معارضة بهدف تمييع الجسم الرئيسي للمعارضة الرافضة للأسد.
ووفقا لمحللين، فإن أبرز ما قامت به روسيا لخدمة أجندتها في سوريا هو استقطاب تركيا إلى رؤيتها للحل السياسي، واستيعابها ضمن سياقات أستانا وسوتشي إلى جانب إيران واتفاقات خفض التصعيد، وهي بذلك زادت الشرخ بين واشنطن وأنقرة التي تعتبر دعم الولايات المتحدة للأكراد مؤامرة ضدها.
وفي سياق الخلاف الروسي الأميركي، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده عازمة على “تنظيف منبج وتل أبيض ورأس العين والقامشلي من الإرهابيين” وفي إشارة إلى مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي المدعوم أميركيا، وهو ما يطرح إشكالات جمة أمام واشنطن في دعمها للأكراد -حتى وإن لم يطبق هذا التهديد- ويطرح تساؤلات حول مستقبل وجودها بالمنطقة وعلاقاتها بتركيا.
وتحتفظ تركيا بدورها بمواقع نفوذ في سوريا، فتسيطر من خلال درع الفرات على مناطق بمحافظة حلب شمالي سوريا، كما وسعت نفوذها إلى محافظة إدلب بمقتضى اتفاق خفض التصعيد في جولة أستانا-6، ويمنحها ذلك دورا مهما على الصعيد العسكري، وفي أي تسوية سياسية مقبلة.
وبحلول تلك المرحلة التي ستأخذ بالاعتبار الحقائق الميدانية الجديدة، حرصت القوى العظمى واللاعبون الإقليميون كتركيا وإيران -التي تجاوز حضورها في سوريا الجانب العسكري إلى السياسي والاجتماعي- إلى تثبيت أقدامها على الأرض، باعتبار السيطرة على الجغرافيا أساس أي دور مستقبلي في سوريا سواء بشكل مباشر أو عبر طبيعة النظام السياسي الذي سينشأ.
المصدر : الجزيرة