ما عــــرفت العرب في حال كحالهم اليوم. أول عهدي بهم أمة طموحة تسعى إلى جني ثمار الخلاص من الاستعمار، تحلم بالنهضة وبناء دول حديثة بهدف أكبر، هو الاندماج في شكل أو آخر من أشكال الوحدة تحفظ بها استقلالها وتؤمن حدودها الخارجية وتؤدي دوراً مناسباً في عالم المؤسسات والتحالفات والكتل التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية. لم تكن الرحلة سهلة. واجهت كغيرها من الأمم أنواعاً شتى من الصعاب ولكن ما واجهته كان أكثر وأشد. حاربت وحوربت. اقتربت مرة أو أكثر من تحقيق حلم أو آخر. ساقت لها الأقدار ثروات بشرية ومادية ولكنها ساقت لشعوبها من بدّدوها على أطماع شخصية وسياسات هزيلة وحزازات تافهة. سقطت مرات وانتفضت مرات. انفرط عقدها واجتهدت في استعادته مكتملاً لتنفرط حباته مرة أخرى، بعضها ضاع وبعضها مهدد بالضياع وأكثره مثخن بالخدوش والكسور.
ها هي الآن بعد أن نُهبت ونزفت تعود ساحة يتسابق لاحتلالها الآخرون. عادت القواعد العسكرية تقام في كل مكان من الأراضي العربية تحت مسميات صريحة وأسماء مبتكرة. حتى جيبوتي الدولة التي أذكر أنها دخلت بيت العرب بتوصية من دولة أوروبية وترددٍ عربي صريح، هي الآن الدولة مضرب الأمثال في معاهد القانون الدولي وبين المتخصصين فيه بما فعلته بمبدأ السيادة. هي أيضاً مضرب الأمثال في مراكز الأمن الدولي والصراعات العسكرية. الدولة الأصغر أفريقياً وعربياً أجّرت معظم أراضيها لدول أجنبية كبرى، ولا تزال تستقبل عروضا ًللإيجار من دول أقل درجة. سمعت في إحدى الندوات الغربية من يتخيلها وقد أصبحت نموذجاً يدرس في الجامعات لحال «دولة قواعد عسكرية»، إذا نشبت حرب أو أكثر بين دول تمتلك قواعد في هذه الدولة. كثير من هذه الدول التي تحتفظ بقواعد في جيبوتي دول نووية ولن تمنعها الدولة المضيفة من تخزين قنابلها في جوف قواعدها التي قيل إن إحداها تمتد عميقاً جداً في باطن الأرض والبحر.
وضعٌ غريب. هذه الدولة عضو في الجامعة العربية واتفاقية الدفاع العربي المشترك، ولم تستشر واحدة من دول الجامعة، وجميع هذه الدول عرضة لتكون هدفاً لقاعدة من هذه القواعد بحكم الموقع. ولا أظن أن دولة من هذه الدول اعترضت على انضمامها إلى الجامعة عندما كانت تقيم على أراضيها قاعدة فرنسية، أو أن دولة استفسرت في مجلس الجامعة، وهذا حقها، عن صحة ما يشاع من أن كلاً من تركيا وإيران وإسرائيل يجسون النبض للحصول على قطعة أرض لتقيم عليها قاعدة. ليست وحدها جيبوتي، فالقواعد العسكرية الأجنبية كبيرة جداً مثل القاعدتين الروسيتين في سورية وقاعدة العديد في قطر، والصغيرة جداً مثل القواعد الأميركية المنثورة تحت أسماء مختلفة في كثير من الدول ومنها سورية والعراق والأردن. ليس فقط القواعد ولكن هناك جيوشاً أجنبية حقيقية يجري تأجيرها بأرقام هائلة للدفاع عن عواصم ومطارات وقواعد عسكرية وطنية. إنها جيوش المرتزقة من المتعاقدين. بعض هؤلاء استخدمتهم أطراف شاركت في حرب سورية ومنها روسيا ودول عربية وإسلامية. بمعنى آخر يكاد لا يوجد بلد عربي يخلو من قوات أجنبية عادت إليه بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.
تزداد حال الأمة سوءاً بسبب هذه الحملة الشرسة التي تمزق النسيج العربي بأكثر مما هو ممزق، أقصد حملة جلد الذات في الداخل وتوأمها حملة التشهير بالعرب في الخارج. تكاد لا يوجد في العالم العربي دولتان غير ناشبة بينهما حرب كلامية متدنية المستوى السياسي والأخلاقي. لا أتحدث عن خلافات عادية يومية تنفجر وتهدأ في الحال وهذه تعودنا عليها كخلافات العائلة الواحدة ولكني أتحدث عن خلافات تحوّلت إلى نزاعات تنذر بالاستمرار. من كان يتصور أن يتمكن خلاف، أياً كان نوعه، من أن يكسر ويخترق جدار المناعة الذي كان يحمي العلاقات البينية في مجلس التعاون الخليجي؟ من كان يتصور أن يتدهور اختلاف في الرأي إلى حملة سخيفة وبذيئة بين مصريين وسودانيين؟ من كان يتصور أن يبعث من جديد خلاف نشأ في أجواء الثورة فيتحول حرباً بشعة بين جهات تونسية وجهات إماراتية؟ تتكرر الظاهرة الخبيثة بدرجات متفاوتة بين جزائريين وسعوديين وبين لبنانيين وأردنيين من جهة وخليجيين من جهة أخرى وبين مغاربة وموريتانيين وبين ليبيين ومصريين وبين فلسطينيين ومعظم العرب ولكن بخاصة بين مصريين وأهلٍ من غزة. لا شيء من هذا أو حتى قريب منه يحدث بين شعوب دول في جنوب شرقي آسيا أو بين شعوب متجاورة في أميركا اللاتينية، وتظهر بين شعوب في أوروبا وسرعان ما تختفي. في النهاية وبسبب حملة جلد الذات والحملة الصادرة من الغرب، بخاصة تلك التي تنسجها وتبثها أجهزة إعلامية مموّلة من رأسماليين يهود كبار في أميركا وغرب أوروبا ومن جماعات تمثل الجناح الأشد تطرفاً في الكنائس الإنجيلية والمعروفة بالمسيحية الصهيونية ومن حركات عنصرية وقومية متطرفة. لا أنكر، ولا أحد ينكر، الصيت الذي التصق بسمعة حكومات العرب نتيجة ما يرد في التقارير الصادرة عن المنظمات العاملة في مجال الحقوق، وهذه ترصد ما أغلبه حقيقي ولكنها تبرزه لقيمته الخبرية في سياق أحوال منطقة مشتعلة بالحروب والقتل والدمار.
يعيبنا أننا ننطق بلغة واحدة ومشكلاتنا متشابهة وفي الغالب متكررة وتطلعاتنا متقاربة وثقافتنا السياسية لا تتغير من بلد إلى بلد، وكلها صفات تفترض ضرورة وجود قيادة موحدة. واقع الأمر يشهد بأن العرب يعيشون من دون قيادة عربية حقيقية منذ مدة غير قصيرة، ولا يظهر عند الأفق ما يشير إلى أن قيادة جماعية أو مؤسسية أو حتى فردية هي في طور النضج أو حتى في طور النشأة. هذه القيادة، أو مشروع القيادة، عندما تكتمل مكوناتها وشروطها، سوف تجد نفسها مدعوة لتقود. المهم في حالنا الراهنة أن هذه القيادة غير موجودة، وأن النظام العربي يتأرجح متخبطاً بسبب غياب فكرة جامعة وإلهام محفز وطاقة انتفاض أو انطلاق جديدة وقيادات محلية برؤى إقليمية وتحررية ومتجاوزة واقعها وعصرها. المهم أيضاً والخطير هو أنه بسبب غياب قيادة عربية تستعد قوى أجنبية لفرض أنماط قيادة من خارج النظام العربي، أحدها مباشر أتى من روسيا الصاعدة من جديد مزوداً بخبرة وتجربة سابقة، وآخر يجرب ما صار يعرف بالقيادة من الوراء وثالث يجرب فينا نمط القيادة من فوق متفضلاً ومتعالياً.
ليــــس خافياً عنا أن دولاً من خارج العالم العربي تحوم حوله مؤهلة ومتأهبة لالتقاط فريسة أو أخرى. تعرف هذه الدول، تماماً كما نعرف نحن دولاً كنا أو شعوباً أو مواطنين، أن غياب قيادة، مشتركة أو منفردة، للنظام العربي في حاله الراهنة إنما هو دعوة مفتوحة للغـــــرباء لينقض كل منهم على فريسة يقع اختياره عليها وينتزعها من واقعها القومي إلى واقع جديد تفقد فيه هويتها وتاريخها ويتحدد لها مصير مختلف. إن ما يحدث الآن في البحر الأحمر وحوله دليل على عمق الملهاة التي نعيشها. عاد الأتراك فجأة ليستعيدوا كنوز العثمانيين وآثارهم ففجّروا غضب شعوب تعرّض أجدادهم في مصر والسودان والجزيرة العربية وشمال أفريقيا لعذاب مرحلة هي الأبشع في تاريخهم حين بطل النمو وتجمد التاريخ وماتت الثقافة. لا إسرائيل ولا إيران ولا إثيوبيا ولا تركيا مستعدة لأن تفقد هكذا فرصة لتشارك في نظام وصاية إقليمي جديد يحل محل النظام العربي المتهاوي حالياً والغائبة عنه قيادة رشيدة وواعية ومؤهلة للقيادة في عصر معقد.
يجب أن نعترف أننا قصّرنا وأهملنا وتجاهلنا. ندرك ويجب ألا ننكر أن دونالد ترامب ما كان تجاسَر وفعل فعلته لو لم نكن كمثقفين وسياسيين ومفكرين وقيادات مارَسنا، أو أغلبنا، سياسات التنازل عن حقوقنا وحقوق بلادنا حتى صار التنازل عند البعض إدماناً وصارت هذه سمعتنا في العالم.
أمـــام هذه الأمــــة وقياداتهـــا فرصـــة لا أظن أنها قابلة للتكرار في الأجـــل المنظور. الأخطار تحيط بنا من كل جانـــــب ولن تفلت من آثارها دولة. قد تستطيع دولة نافذة أو مجموعة دول متفقة أو متوافقة أن تجمع الدول العــــربية لتقرر بنفسها مصير النظام العربي. تستطيع مثــــلاً أن تفاوض مجتمعة وبصوت موحد على وضعها في النظام الإقليمي الجديد أو أن تقرر سلوك طريق النضال لتثبيت النظام القائم والتعهد بتطويره وحمايته أو أن تقرر بشجاعة الانفراط والانضمام فردياً إلى ما يطــــرح عليهـــا في المستقبل، وتعلن صراحة انعدام حاجتــــها إلى جامعة دول عربـــية مفضلة عليها تحالفاتها واتفاقـــاتها الوقتية مع دول ومؤسسات غير عربية.
الأخطار والتهديدات صريحة وواضحة وكذلك الخيارات ولا حاجة للتذكير بأنه في السياسة الدولية الفرصة لا تتكرر.
جميل مطر
صحيفة الحياة اللندنية