من أغرب ما يمكن أن يصلك من أخبار هو ما كشفه ناطق باسم «قوات حماية الشعب الكردي» عندما قال إن «الحكومة الفرنسية لم تبادر إلى طلب تسلم إرهابيين فرنسيين خطيرين تحتجزهم «قسد» في روج آفا، ومن بينهم توماس برنوان المتهم بالمشاركة في عملية إرهابية في فرنسا في العام 2012 أدت إلى مقتل سبعة فرنسيين»! وقبل ذلك بأيام كانت باريس تنصلت من مسؤوليتها عن مواطنتها إميلي كونيغ المحتجزة أيضاً لدى القوات الكردية، عندما قال الناطق بلسان الحكومة الفرنسية إن لا مانع لدى باريس في أن تحاكم كونيغ في روج آفا إذا توافرت هناك ظروف محاكمة عادلة لها. علماً أن برنوان وكونيغ مواطنان فرنسيان ليسا من أصول مهاجرة، ولا يمكن رد إرهابهما إلى غير الشرط الفرنسي.
والحال أن فرنسا تمثل أحد ذرى التنصل الغربي من المسؤولية عما حملته تلك البلاد إلى بلادنا، ذاك أن «داعش» وخلافاً لغيره من تنظيمات العنف الإسلامي كان تبادلياً، فهو غذّى النزوع العنفي والإرهابي لدى جماعات أوروبية، إلا أنه تغذى بدوره من نزوع إلى العنف مصدره غربي، وهو إذ فعل ذلك، أوهم بعضاً من الغرب على ما يبدو أنه بصدد امتصاص عنف ولد في الغرب وهو بصدد التفجر في الشرق. لا يمكن فهم تنصل باريس من مواطنيها الإرهابيين إلا بصفته إمعاناً في اعتقاد بأن استعادتهم ستثقل عليها، وأن ميزان العدالة لن يختل في فرنسا إذا حُوكم «منشقون عن فرنسيتهم» في روج آفا.
ولكن هذا الاستنكاف الفرنسي هو امتداد لاستنكاف يبدو أنه تحول إلى حال من النكران، ففي فرنسا فشل أمني كبير كشفته السهولة التي نُفذت بها عمليات باريس في العامين 2015 و2016، والتجوال السهل لعناصر الخلايا الإرهابية بين بروكسيل وباريس، وبين الأخيرة وإسطنبول ومن ثم سورية. وهو فشل كانت سبقته توقعات بعمليات إرهابية، ومصدر التوقعات لم يقتصر على معلومات إنما أيضاً شمل استنتاجات مستمدة من حقيقة معرفة المخابرات الفرنسية أن مواطنين فرنسيين يذهبون إلى «الجهاد» في سورية. والنظام الأمني الفرنسي، لا بل الأوروبي أيضاً لم يربط بين ذهابهم وبين حصول عمليات إرهابية داخل فرنسا، إلى أن اكتشف أن منفذي هجمات ستاد دو فرانس ومسرح باتاكلان، وهم فرنسيون أيضاً تدربوا، في سورية على يد أبو محمد العدناني الذي كانت كل أجهزة مخابرات العالم تراقبه.
وفي حينها أيضاً، أورد تقرير لم يعطه أحد أهمية أن مواطنين من مدينة الباب السورية أبلغوا قنصلية فرنسية في إحدى الدول بأن خلية فرنسية في «داعش» تتدرب في منطقة الباب على تنفيذ عملية في فرنسا، ووفق هذا التقرير، أهمل الأمنيون الفرنسيون هذه المعلومات. واليوم، في ضوء غرابة الموقف الفرنسي من الإرهابيين الفرنسيين المحتجزين لدى الأكراد، تمكن إعادة الاعتبار إلى هذه المعلومات بصفتها احتمالاً ممكناً.
يمكن القول على ضوء التصرف الفرنسي إن الإرهاب يمكن أن يولد من جديد، ذاك أن تفسير القضاء عليه بانتصارٍ على «داعش» في الموصل أو في الرقة ينطوي على نوع سهل من النكران ومن التنصل، تمارسهما أنظمة متقدمة وتطرح على نفسها مهام ليست أقل من قيادة العالم، فأن يعتقد الناطق باسم الحكومة الفرنسية أن لدى «روج آفا» القدرة على إجراء محاكمة عادلة لجرائم وقع بعضها في فرنسا، وأن لا يُحرك قوله رأياً عاماً فرنسياً نعرف جميعاً حساسيته حيال قضايا العدالة والأمن، بل أن يكون هذا الكلام تجاوباً مع مطالب جزء من الرأي العام، فهذا مؤشر آخر على أن «داعش» لم يُهزم في فرنسا.
حازم الأمين
صحيفة الحياة اللندنية