منذ انطلاقتها يوم 1 يناير/كانون الثاني 1965 (أي قبل 53 عاماً)؛ استطاعت حركة “فتح” أن تطبع الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعها، إذ تملكت بأدبياتها السياسية البسيطة الفكر السياسي الفلسطيني، وذلك في حقبة الأيديولوجيات الكبرى لا سيما القومية واليسارية.
كما استطاعت -ببنيتها الواسعة والمرنة- أن تفرض ذاتها في مجتمعات الفلسطينيين، وأن تستوعب في صفوفها مختلف تياراتهم من دون أن تكون حزباً أو جبهة، بحسب التوصيفات الرائجة آنذاك.
بيد أن ما ينبغي لفت الانتباه إليه هو أن هذه الحركة لم يكن بوسعها تحقيق هذا أو ذاك من دون مبادرتها إلى إطلاق الكفاح المسلح، أو العمل الفدائي الذي كان بمثابة الشرارة التي استنهضت الروح الوطنية عند الشعب الفلسطيني، وتمكنت من استقطابه وتعزيز إدراكاته لذاته كشعب يمتلك حقاً وقضية مشروعين وعادلين، وتالياً لذلك إعادته كفاعل إلى مسرح التاريخ.
بديهي أن تلك الفترة المديدة جعلت “فتح” هي الحركة الأطول عمراً بين حركات التحرر الوطني التي شهدنا صعودها في القرن العشرين، بما فيها الجزائرية (1954 – 1962)، والفيتنامية بمرحلتيها الفرنسية والأميركية (1946 – 1975)، وحتى الجنوب أفريقية (1960 – 1994)؛ إذ إن حركة “فتح” تجاوز عمرها نصف قرن (53 عاماً).
تحولات متعددة
هكذا، في مسيرتها الصعبة والطويلة اضطلعت “فتح” بمكانة القائد والمقرر في مختلف المسارات والتحولات السياسية الفلسطينية، إذ أضحت في مركز القيادة بمنظمة التحرير الفلسطينية (الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني) بعد معركة الكرامة (1968)، أي في مرحلة الكفاح المسلح التي قُطعت جزئياً بعد غزوإسرائيل للبنان، وإخراج منظمة التحرير بأجهزتها وفصائلها منه (1982).
“حركة فتح لم يكن بوسعها تحقيق ما حققته من إنجازات بدون مبادرتها إلى إطلاق الكفاح المسلح، أو العمل الفدائي الذي كان بمثابة الشرارة التي استنهضت الروح الوطنية عند الشعب الفلسطيني، وتمكنت من استقطابه وتعزيز إدراكاته لذاته كشعب يمتلك حقاً وقضية مشروعين وعادلين، وتالياً لذلك إعادته كفاعل إلى مسرح التاريخ”
ثم حصل ذلك مرة ثانية في مرحلة التسوية، أي بعد توقيع اتفاق أوسلو (1993)، إذ باتت “فتح” من حينه في مركز القيادة بالمنظمة والسلطة في آن معاً.
إلا أن هذا المسار تم قطعه جزئياً أيضاً إثر صعود حركة “حماس” في المشهد الفلسطيني مع اندلاعالانتفاضة الثانية (2000ـ2004)، وبخاصة إثر فوزها في الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، وهيمنتها على السلطة في قطاع غزة (2007)، إذ ظهر من يومها أن ثمة مركزين قياديين فلسطينيين مختلفين ومنقسمين ومتنافسين.
وإضافة إلى ذلك عرفت هذه “فتح” -طوال تجربتها التاريخية- تجارب متعددة ومختلفة، حيث انخرطت في خيارات سياسية وكفاحية متباينة وربما متعارضة، فهي انطلقت من أجل تحرير فلسطين قبل احتلال الضفة والقطاع (حرب 1967) إلا أنها وصلت بعد عقد على قيامها إلى المطالبة بإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، أي في الأراضي التي تم احتلالها بعد انطلاقتها.
ثم إن “فتح” انتهت بعد 28 عاماً إلى اتفاق أوسلو الذي وافقت فيه على إقامة كيان فلسطيني في بعض أراضي الضفة وفي القطاع، من دون معرفة مآل الحل النهائي المتعلق بحل قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود والقدس.
وهو الأمر الذي يدفع الفلسطينيون ثمنه الآن بتغوّل عمليات الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي، لا سيما مع بناء الجدار الفاصل في الضفة (وقرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل)، هذا إضافة إلى وضع غزة تحت الحصار منذ 2007.
في ذات السياق أيضاً شهدنا تغيير “فتح” خياراتها النضالية أو وسائلها الكفاحية لتحقيق هدفها من اعتبار الكفاح المسلح الفلسطيني وسيلة لتحريك الجبهات العربية، وفقاً لمبدأ “التوريط الواعي” الذي تبنته في أدبياتها ومنطلقاتها التأسيسية، إلى اعتباره طريقاً رئيسياً أو أساسياً أو إحدى وسائل تحرير فلسطين، بحسب كل مرحلة، وصولاً إلى انتهاج طريق المفاوضات، أو المقاومة الشعبية، بحسب كل مرحلة.
وضمن ذلك اضطرت “فتح” إلى نقل ثقل قوى العمل المسلح الفلسطيني من الخارج، حيث نشأ في الأردنوسوريا ولبنان ثم انحصر في لبنان وانتقل إلى الأراضي المحتلة، حيث تم تموضع الأجسام الرئيسية لمجموعات الفدائيين في الأجهزة الأمنية للسلطة إثر إقامتها، علماً بأنها أسهمت في تحول الانتفاضة الثانية إلى مواجهات مسلحة، في سعيها للمزاوجة بين المفاوضة والعمل المسلح.
أما على صعيد البني السياسية، فقد اندمجت “فتح” مبكّرا في منظمة التحرير إلى درجة التماهي معهاومع الأطر المنبثقة عنها، بحيث تمكنت عبر قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية طوال (1969ـ 1994)، ثم إنها بعد اتفاق أوسلو وإقامة الكيان الفلسطيني حوّلت مركز الثقل إلى السلطة التي أضحت بمثابة المرجعية للمنظمة بدل أن تكون المنظمة هي المرجعية، مع الجمع بين رئاستيْ السلطة والمنظمة.
إخفاقات ومآلات
خلال تلك المسيرة عقدت “فتح” سبعة مؤتمرات، خمسة منها عُقدت خارج الأراضي المحتلة (1965 ـ 1988)، واثنان منها عقدا في الضفة (2009 ـ 2016) أي بعد إقامة السلطة؛ هذا أولاً.
ثانياً، أن “فتح” لم تعقد في الفترة من 1988 ـ 2009 أي مؤتمر لها، مما يعني أنها خلال 21 عاماً لم تناقش ولم تُقرّ في مؤتمراتها أياً من الخيارات التي تم انتهاجها في تلك الفترة، وهذا ينطبق على اتفاق أوسلو (1993)، وعلى السياسات التي أدت إلى تهميش المنظمة والتماهي بين فتح والسلطة والمنظمة.
“حركة فتح -رغم كل التجارب والخيارات، وكل التضحيات والبطولات التي بذلها شعب فلسطين في الداخل والخارج- لم تستطع تحقيق أهدافها ولو على مستوى دحر الاحتلال الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة المحتليْن (1967)، لا بالكفاح المسلح ولا بالكفاح السياسي أي المفاوضة”
ولا سيما الجمع بين الرئاسات الثلاث، والإسهام في تحويل الانتفاضة الثانية إلى انتفاضة مسلحة، من دون دراسة ولا توفر للمعطيات والإمكانيات، إضافة للذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية على النحو الذي حصل عاميْ 2006 و2007، مع التداعيات التي أدت إلى تهميش المجلس التشريعي، وحصول الانقسام في الكيان الفلسطيني بين الضفة وغزة وبين فتح وحماس.
يُستنتج من ذلك أن هذه الحركة -ورغم كل ما تقدم، ورغم كل التجارب والخيارات، وكل التضحيات والبطولات التي بذلها شعب فلسطين في الداخل والخارج- لم تستطع تحقيق أهدافها ولو على مستوى دحر الاحتلال الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة المحتليْن (1967)، لا بالكفاح المسلح ولا بالكفاح السياسي أي المفاوضة.
أيضاً لم تحافظ هذه الحركة -في خياراتها التفاوضية- ليس فقط على المنظمة ككيان سياسي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده فتعززه وتفعّله، وإنما أيضاً لم تتمكن من إقامة كيان فلسطيني حتى وفق اتفاق أوسلو (1993)، إذ وجدت نفسها في إطار مجرد سلطة ذاتية تخضع لسلطة الاحتلال، مع علاقات تنسيق أمني وتبعية اقتصادية واعتمادية في مجالات البنية التحتية (مع الاعتماد على الخارج في التمويل).
كما وجدت نفسها في منطقة مقطعة الأوصال وغزة محاصرة، علاوة على أنها تورّطت بالانخراط في حل سياسي لجزء من شعب فلسطين على جزء من أرض فلسطين، مع بعض حقوق للفلسطينيين.
وفي المحصلة؛ نتج عن كل ذلك تهميش المنظمة وانحسار دور اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، الذين كانوا لعبوا دورا كبيرا في احتضان “فتح”، وفي الكفاح المسلح لصالح كيان السلطة، كما نجم عنه تحول حركة “فتح” إلى سلطة أو إلى حزب للسلطة.
هكذا ضاعت حركة التحرر الوطني الفلسطينية وضاعت المنظمة وضاعت السلطة، وضاعت “فتح” التي لم تستطع التحول لا إلى حزب ولا إلى جبهة فباتت كياناً غير واضح المعالم، ويتكئ في وجوده على السلطة بدل أن تتكئ السلطة عليه وعلى فاعليته وشعبيته.
ملاحظات ثلاث
من كل ما تقدم يمكن التوصل إلى ملاحظات ثلاث: الأولى، مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست الأولى من نوعها التي لا تنجح في تحقيق أهدافها، إذ حصل ذلك في كثير من التجارب التاريخية التي عرفتها البشرية، وضمنها التجربة الوطنية الفلسطينية ذاتها في المراحل السابقة.
ومع أن كثيراً من التعقيدات والصعوبات ناجم عن عوامل موضوعية خارجية، إلا أن ذلك لا يمنع من رؤية مكامن قصور الإستراتيجيات أو الخيارات التي اتبعتها “فتح” في الصراع ضد إسرائيل، وتبيّن دور العوامل الذاتية -المتمثلة في الإدارة والخطابات والبنى وأشكال العمل- في إخفاق هذه الإستراتيجيات والخيارات.
“إن أجدى شيء يمكن أن تقوم به القيادات المعنية -لا سيما في “فتح”- هو تمهيد الطريق أمام الأجيال الجديدة لتوليد حركة وطنية جديدة، تشتغل على استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر من إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، خاصة بعد انسداد خيار الدولة الفلسطينية بالتملص الأميركي من اتفاق أوسلو بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل”
الملاحظة الثانية، تتعلق بأن التجربة التاريخية تثبت مجدّداً أن أي حركة سياسية أو حركة تحرر وطني قد تشهد مراحل صعود وهبوط، وأن معضلة حركات أو أحزاب كهذه -لا سيما عندما تصبح في السلطة- هي أنها تخبو روحها النضالية وتستهلك ذاتها، وتبدي ميلاً لاستمراء مكانتها الجديدة، والتخفّف من طبيعتها “الثورية” القديمة.
وذلك بالاتكاء على تاريخها الكفاحي وإمكانياتها وعلاقاتها ونفوذها، من دون الالتفات إلى ضرورة تعزيز شرعية هذه المكانة، ومن دون الاهتمام بالارتقاء في خطاباتها وأشكال عملها ووسائل نضالها، وهذا يفسر حقيقة أن هذه الحركات قد تستمر لكنها تستنفد مع ذلك مهماتها أو أدوارها التاريخية.
ثالثاً، ربما يكون لا بد من التذكير هنا وللإنصاف بأن المآلات التي وصلت إليها “فتح” (وغيرها من الفصائل) نجمت أيضاً عن المشكلات والتعقيدات والصعوبات الجمّة التي حالت دون تحقيق أي من خياراتها أو أهدافها، ومن ضمنها الخلل في موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وعدم توافر العوامل الدولية والعربية الملائمة لها، وافتقار الفلسطينيين إلى إقليم واحد، بحكم تشتتهم وخضوعهم لسلطات أو أنظمة مختلفة.
إلا أن كل ذلك لا يعفي قيادة هذه الحركة من المسؤولية عما حصل، إن بالنسبة لخياراتها السياسية والكفاحية، أو بالنسبة لطرق عملها وقصور إدارتها لمواردها، وأن المستقبل -أي بقاء هذه الحركة واستعادة فاعليتها- يتعلق بقدرتها على مراجعة تجربتها بطريقة نقدية ومسؤولة، والاستناد إلى رؤى سياسية وأشكال عمل جديدة أكثر ملاءمة لظروف الشعب الفلسطيني.
من كل ذلك؛ يتضح أن أجدى شيء يمكن أن تقوم به القيادات المعنية -لا سيما في “فتح”- هو تمهيد الطريق أمام الأجيال الجديدة لتوليد حركة وطنية جديدة، تشتغل على استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر من إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، خاصة بعد انسداد خيار الدولة الفلسطينية بالتملص الأميركي من اتفاق أوسلو بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وإنشاء مستوطنات في كل الضفة.
كما يتمثل ذلك في اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم في وسائل كفاحهم، على نحو ما حصل في الانتفاضة الشعبية الأولى (وليس الثانية)، وعدم الانحصار في خيار واحد يتمثل في الدولة الفلسطينية بالضفة والقطاع، باستعادة التطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين.
وربما تكون فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية هي الحل الأنسب للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، لكن على أساس تقويض طابع إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وأيديولوجية. وبديهي ان ذلك يتطلب أيضاً إعادة بناء وتفعيل الكيانات السياسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية) على قواعد مؤسسية وطنية وتمثيلية وديمقراطية وكفاحية.
ماجد كيالي
الجزيرة