تمثّل عمليّة «غصن الزيتون» (الاسم الذي أطلقته وزارة الدفاع التركية على معركتها مع «وحدات الحماية الكردية» في مدينة عفرين) بؤرة تجميع لعدد من التطوّرات الكبيرة على الساحة السورية.
أول هذه التطوّرات هو أن العملية تمثّل أول انخراط عسكريّ برّي وجوّي كبير لتركيا داخل سوريا، مما يستلزم تحريكا كبيراً للقوّات والطائرات والدبابات، مما يعني، على المستوى البعيد، سيطرة فعلية على مساحات كبيرة من سوريا توازن التواجد المتعدد للقوات الأمريكية والروسية والإيرانية.
غير أن هذا الانخراط التركيّ المباشر ما كان ليحصل لولا اضطرار القوتين المسيطرتين على السماء السورية: أمريكا وروسيا، لقبول هذه العملية، وهو ما تبدّى عبر التصريحات الأمريكية التي تخلّت عمليّا عن حلفاء واشنطن الأكراد في عفرين بدعوى أن قواتهم هناك لا تشارك في عمليات «التحالف» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعبر انسحاب العناصر الروسية التي كانت متواجدة في عفرين، حسب تأكيدات لمراسلي «القدس العربي».
يرتبط هذا الحدث بتطوّر آخر لا يقلّ أهمّية عنه ويتمثل بإعلان الولايات المتحدة الأمريكية العمل على تشكيل جيش من ثلاثين ألف مقاتل من «قوات سوريا الديمقراطية» لحماية الحدود العراقية والتركيّة، وهو ما اعتبر شكلاً من إعلان دولة كرديّة تسيطر على مناطق شاسعة وغنيّة بالنفط والمحصولات والمياه، وما تبع ذلك من إعلان غير مسبوق لاستراتيجية أمريكية حول سوريا تتصّدى عمليّاً لكل من روسيا وإيران.
إعلان هذه الاستراتيجية الأمريكية فاجأ الروس وساهم، كما هو واضح، في قرارهم السماح، لأول مرة، بوقف منظومتهم الدفاعية الصاروخية وفتح الطرق الجوّية والبرية لحركة الجيش التركي، ولعلّ المستجدّ غير المتوقع في هذا الإطار هو تأكيد فرانس كلينتسيفيتش نائب رئيس لجنة الدفاع والأمن بمجلس الاتحاد الروسي أن بلاده لن تتدخل في حال نشب نزاع بين قوات النظام السوري والجيش التركي، وهو تصريح فريد من نوعه لأن موسكو، كانت على مدار سنوات الأزمة السورية، هي الراعية الكبرى لنظام بشار الأسد وحاميته العسكرية.
على المستوى الإقليمي، كان تصريح الخارجية الإيرانية لافتا حيث استخدمت تعبيرات «قلق بالغ»، و«الأمل في إنهاء العمليات التركية ضد المدينة» وهو ما يكشف عن رفض أقلّ مما هو متوقع بينما رفضت الخارجية المصرية العملية واعتبرتها «انتهاكا جديداً للسيادة السورية»، وهو أمر يمكن أن يُفهم على ضوء العداء المستحكم بين النظام المصري والحكومة التركية، وفي خلفيّته طبعاً تأييد الأخيرة للرئيس المعتقل محمد مرسي ومواقفها المعلنة ضد سيطرة إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي على السلطة.
يمكن قراءة هذه التطوّرات العسكرية على أرضية آفاقها السياسية الممكنة، وفي صلبها بالتأكيد، اتضاح الموقف الأمريكي من رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، فدعم روسيا المستجد لدخول تركيا حمأة الساحة السورية بقوّة يمكن اعتباره ردّاً على هذا الموقف (إضعاف الجناح الغربيّ لحلفاء أمريكا الأكراد)، كما يمكن اعتباره تفاعلاً معه (التصريح «الحيادي» حول عدم التدخل في صراع محتمل بين القوّات التركية وقوّات الأسد)، وقد يفسّر باعتباره قبولاً مبدئياً بواقعية فكرة «تحجيم النفوذ الإيراني».
وإذا كان موقف نظام الأسد، الذي اعتبر ما حصل «عدوانا غاشما»، لا يمكن احتسابه فعليّاً كونه رهينة بيد الروس والإيرانيين، كما أن موقف السيسي المهموم بـ»السيادة السورية» بعكس رئيسها نفسه، وصاحب تصريح استخدام «القوة الغاشمة» ضد شعبه، لا يمكن أن يؤثر فعلياً على المعادلات السورية المعقدة، فإن القوة الدولية الوحيدة التي ناهضت العمليّة كانت فرنسا التي دعت لاجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، وهو أمر يصعب تفسيره.
صحيفة القدس العربي