في كتابه “الحياة سياسة”، يوضّح آصف بيات أن بناء المدن يتم وفق مصالح السلطة الحاكمة لا وفق المعتقدات، فمن خلال الشوارع الفسيحة تهدف لمراقبة الحشودوالسيطرة عليها، ومن خلال الساحات الواسعة تريد أن ترى حركاتهم وتراقبها. ولهذا تبدو الأحياء القديمة في دمشق وحلب والقاهرة وبغداد وطهران شديدة الخطورة بسبب أزقتها الضيقة، وشوارعها الملتفة التي تعجز السلطة عن مراقبتها، مثلما تعجز عن ضبط الحشود أو التجمعات بداخلها.
وبسبب انتماء الكثيرين من رجال السلطة في هذه البلدان إلى أصول ريفية فقد مالت بعض الدراسات لتعميم مصطلح “ترييف المدينة” كدلالة على الاجتياح السلطوي الجديد الذي يعتدي على المدينة. ومن غير المعروف حتى اليوم ما المقصود بترييف المدينة بالضبط، فإذا كان يشير إلى سياسة هدم الأحياء القديمة، وتدمير نمط العمارة، فالمرجح أن تفسير ذلك يجب أن يبحث في طبيعة السلطة التي تسعى لهدم تلك الأحياء بذريعة عصرنة المدينة.
كانت العصرنة تتحدّى القديم المتهاوي الذي يحتاج للصيانة والترميم، ولم يكن باستطاعة سكّان المدينة القديمة تحمّل تكاليف الترميم التي ارتفعت كثيراً بعد تسلل الأغنياء الجدد إليها. واللافت أن بعض حملات الترميم التي بدأ ينفذها عدد من الأثرياء الذين اشتروا البيوت الدمشقية القديمة، ومن بينهم مدينيون وريفيون بالطبع، منحوها مواصفات سياحية لا علاقة لها بالسكن والمنزل. وحين صدرت بعض القوانين لحماية المدينة القديمة من الهدم، ردّ الأثرياء الجدد على ذلك بتحويل عشرات المنازل في دمشق القديمة إلى مطاعم ومقاه واستوديوهات للتصوير التلفزيوني.
أما إذا كان المقصود نمط العيش، والعادات والتقاليد التي تغيّرت، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً، ويتجاوز مجرّد الهجاء السياسي ليبحث آليات التبدّل في أنماط العيش، وأشكال التعدي على القيم المدينية أو المدنية.
وإذا ما نُسبت إلى الرواية صفة الديمقراطية في السرد وفي تناول مصائر الشخصيات وفي العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، فإن من الممكن رد الأمر إلى شكل العلاقات التي تربط الجماعات الكبرى. أما غير ذلك فغالباً ما يكون بلا لون، إذ أن الاستبداد ليس ريفياً بالطبع، وليس مدينياً بالضرورة. على أن تقدّم الريف إلى المدينة ـوهي ظاهرة اجتماعية وسياسية لم تدرس بعد على الصعيد الميداني، بل ظلت خاضعة للتجاذبات والتناحرات والسجالات السياسيةـ موضوعٌ جدير بالمعالجة، وقد تظهر روايات تحاول أن تسترد المدينة من الهجمات “الريفية” التي تُتهم بأنها تريد أن تدمّر هويتها. وفي هذا المجال يمكن اعتبار أن “الشاميات” (وهي لوحات معروفة في الفن التشكيلي السوري، يرسم فيها الفنانون أحياء دمشق القديمة) تنتمي بطريقة ما إلى محاولات الاسترداد الهوياتية.
وليس غريباً أن يكون المدافعون عن المدن القديمة التي يهدّدها العمران الحديث بالزوال هم من الأدباء. ومن بينهم روائيون وشعراء. بينما كان معظم المقاولين أغنياء جدد يشكّلون تحالفاً بين السلطة والبورجوازية الجديدة التي بلا جذور ممن لم تكن تعنيهم جماليات المكان البتة، ولا الذاكرة الوطنية أو القومية، فاخترعوا مدناً مشوهة بلا هوية، فيما كانوا قد دمروا الريف أيضاً.
ممدوح عزام
صحيفة العربي الجديد