يُلاحَظ أن هناك ميل واضح في إسرائيل إلى تصوير الأوروبيين وحكوماتهم بشكل ساخر على أنهم عدائيين بالفطرة، مما يبرر فكرة أن إسرائيل يمكنها الاستخفاف بهم. ففي الواقع، تتسع الهوة بين إسرائيل وأوروبا حول القضية الفلسطينية. إلا أن مقاربات السياسة الخارجية في أوروبا وإسرائيل تتلاقى بالفعل فيما يتعلق بنزاعات رئيسية اخرى في الشرق الأوسط.
ويعتقد المسؤولون الأوروبيون أن المسؤولين الإسرائيليين على يقين تام من نقطة الالتقاء هذه، إلا أنهم يفضلون عدم تسليط الضوء علناً على هذه الأرضية المشتركة من أجل تهميش وجهات النظر الأوروبية حول القضية الفلسطينية.
وبعد أن زرتُ للتو أربع عواصم أوروبية هي لندن وباريس وبرلين وبروكسل، التقيتُ فيها بمسؤولين رفيعي المستوى يتعاملون مع قضايا الشرق الأوسط، يمكنني القول إنه لدى إسرائيل ما يدفعها للقلق من السلوكيات الأوروبية الموشكة على الانفجار تجاهها. ولكن في كل اجتماع، كان واضحاً أن هناك مجالات ذات أهمية استراتيجية كبرى لإسرائيل تتقارب فيها مصالحها بوضوح مع المصالح الأوروبية.
ولطالما افتخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقدرته على إقناع القادة الأجانب. فهو يقول على نحو صائب إن مهمته تكمن في تمثيل مصلحة إسرائيل الوطنية، كما يراها، وعدم السعي وراء الدعم الدولي. إلا أنه يريد أيضاً إقناع محاوريه بتأييد موقفه.
ومع ذلك، يتمسك الأوروبيون بسياساتهم بحيث أن الحجج التي ربما كانت قد أقنعتهم في الماضي لم تعد ناجحة اليوم. ولا يرى القادة الأوروبيون أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تتمتع بأي من المرونة حول القضية الفلسطينية حتى تلك التي كانت تبديها حكومات نتنياهو السابقة (2009-2013 و 2013-2015).
ويسمع الأوروبيون عن إقرار قوانين جديدة في الكنيست ويتساءلون عما إذا كانت هذه التشريعات تجعل حتى من الممكن التوصل إلى حل الدولتين. فعندما تشكو إسرائيل من التحريض الفلسطيني، وبشكل صائب، لا تصغي أوروبا إليها فعلياً، لأن هذه الشكاوى تُرفع في ظل مأزق تام (حيث يرون أن نتنياهو عمل بجهد كبير لوقوعه) فيما يتعلق بالتوصل إلى حل يتم التفاوض عليه للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وكان بعض الأوروبيين يأملون في أن يشارك نتنياهو في اجتماع مع قادة 28 دولة أوروبية في بروكسل الشهر الماضي في خطوة هائلة تجاه الفلسطينيين إثر إعلان الرئيس ترامب حول القدس. إلا أن آمال هؤلاء المسؤولين قد أُحبطت. أما بالنسبة إلى الآخرين – مثل منسقة السياسة الخارجية لـ “لاتحاد الأوروبي” فيديريكا موغيريني – الذين كانوا قد لوّحوا بزيارة نتنياهو من خلال التهجم مرتين على القرار المتعلق بالقدس فقد يكونوا أقل اندهاشاً.
وقد يكون لدى هؤلاء المسؤولين الأوروبيين توقعات متفائلة، ولكن يمكن الاعتبار أيضاً أن امتناع أوروبا عن التصويت الرئيسي في “اليونسكو” والجمعية العامة للأمم المتحدة اللذان أهملا صلة اليهود التاريخية بالقدس ربما أسهما في الجو المحيط بقرار ترامب وفي خيار نتنياهو الواضح بتجاهل أي انتقاد أوروبي لهذا القرار.
وسيطرح بعض الإسرائيليين السؤال التالي: ثم ماذا لو لم يكن الأوروبيون راضين عن خطوة ترامب؟ إلا أن الدول الأوروبية تشعر بقوة بأنه لا يزال لديها دور لتؤديه في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط. ويتوقع العديد من المسؤولين أنه إذا ما شعر الأوروبيون بالرفض والتهميش، فستعلن الدول الأوروبية الرئيسية، وليس فقط السويديين، أن الوقت قد حان للاعتراف بدولة فلسطين. سمعتُ ذلك طوال رحلتي.
ومن المرجح أن تسلك الدول الأوروبية هذا الاتجاه كدول منفردة، ولیس جماعیاً کإتحاد سیاسي. وتتطلب قرارات “الاتحاد الأوروبي” توافقاً في الآراء من جميع الدول الأعضاء التي يبلغ عددها 28 . وهذا ما يقيّدها، ليس فقط من ناحية القرارات السياسية الرئيسية مثل الاعتراف بفلسطين، بل أيضاً من ناحية القرارات الأخرى، مثل تبني مقاربة تميّز بين المستوطنات التي قد تشكل على الأرجح جزءاً من إسرائيل في أي اتفاق نهائي والمستوطنات التي ستقع، وفقاً لمعظم التقديرات، تحت السيادة الفلسطينية.
ويعترف جميع المسؤولين، في المجالس الخاصة، بأن بعض المستوطنات سوف تصبح جزءاً من إسرائيل في مبادلة الأراضي التي قد يُجمع عليها في اتفاقات الوضع النهائي، وهي معلومة للجميع وتمت مناقشتها على مدى أكثر من عقد من الزمن.
ومع ذلك، لا يمكن لـ “لاتحاد الأوروبي”، كهيئة جماعية، أن ينحرف عن سياسته الخاصة حتى بذرّة. فسياسة “الاتحاد الأوروبي” تتمثل بمعارضة النشاط الاستيطاني في أي مكان في الضفة الغربية ويشمل ذلك الأحياء اليهودية في القدس الشرقية أيضاً. وقد يفسّر ذلك سبب عدم تمكن أوروبا من إصدار توجيهات جديدة في مجال السياسة العامة بشأن أي شيء يتعلق بالإسرائيليين والفلسطينيين لمدة دامت عامين.
وبينما توجد خلافات حول القضية الفلسطينية، إلّا أن أوروبا وإسرائيل تتفقان فعلاً بشأن بعض القضايا الرئيسية.
ففيما يتعلق بسوريا تخشى كل من إسرائيل وأوروبا من أن يؤدي الانسحاب العسكري الأمريكي إلى زعزعة الاستقرار في تلك البلاد.
كما أن الأوروبيين على ثقة بأن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس سيحتفظ بـ 2000 جندي من القوات الخاصة الأمريكية في الجزء الشرقي من سوريا حتى بعد هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد شاركت القوات الأوروبية في الحرب ضد «داعش»، ويبدو أن الإشارة إلى الولايات المتحدة للبقاء في سوريا هي أيضاً إشارة للأوروبيين للبقاء هناك. وقد لا يكون ذلك ممكناً دون الولايات المتحدة.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن خروج الولايات المتحدة من شأنها أن تخلق فراغاً قد يعني تواجد المزيد من الميليشيات الشيعية في شرق سوريا، وبالتالي يزيد من احتمال التصعيد العسكري بين إسرائيل والوكلاء الإيرانيين. وفي هذه الحالة، قد تشعر أوروبا بآثار مزعزعة للاستقرار على حدودها من جراء الخروج الأمريكي، لأن ذلك سيؤدي إلى المزيد من الهجرة من سوريا. كما يرون أن وكلاء إيران الشيعة يهددون الاستقرار.
وعلى الرغم من إصرار الزعيم الروسي فلاديمير بوتين على أن الحرب في سوريا قد انتهت أساساً، ويجب على أوروبا أن تصب المليارات من المساعدات لإعادة الإعمار في سوريا، إلّا أنّ المسؤولين الأوروبيين الذين تحدثتُ إليهم قالوا إنه ليست هناك رغبة في ذلك إلى أن يرون نية وعملية واضحتين من التحول السياسي في سوريا. ويدرك الأوروبيون أن بوتين والأسد يسيطرون على أقل من 50٪ من البلاد، لذلك لا يرون أن الحرب قد انتهت.
ويبقى السؤال المطروح هنا فيما إذا كان الأوروبيون سيحجمون عن تمويل المساعدات إلى أن يغادر الوكلاء الشيعة الإيرانيين سوريا. فهل ستستخدم أوروبا فعلاً نفوذها الاقتصادي لعزل تلك القوات التي تهدد إسرائيل أيضاً؟
أما مسألة إيران فهي أكثر تعقيداً. فمن جهة، يختلف الرد الأوروبي الهادئ على التظاهرات الإيرانية الواسعة الانتشار بالطبع عن الرد الذي أبداه كل من نتنياهو والولايات المتحدة. ومن الواضح أن “الاتحاد الأوروبي”، كونه أحد الموقعين على الاتفاق النووي، يشدّد على الإبقاء عليه، وهو واثق فعلياً بأن الولايات المتحدة لن تلغيه أيضاً- على الرغم من بيان البيت الأبيض.
وعلى الرغم من المخاوف التي برزت في الخريف المنصرم في أعقاب خطاب ترامب في تشرين الأول/أكتوبر الذي أعلن فيه نزع الثقة من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أجرى الأمريكيون والأوروبيون محادثات هادئة مستمرة حول الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يخفي التقارب المتنامي بين الأوروبيين – في وقت متأخر وبشكل هادئ – وإسرائيل – بشكل علني جداً – لما يعتبرونه نقطة ضعف أساسية للاتفاق، ألا وهو بند الانقضاء الأساسي في الاتفاق النووي الإيراني الذي يُمكِّن إيران من إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب بعد انتهاء الفترة التي تتراوح بين 10-15 عام.
ولا تختلف أوروبا وإسرائيل أيضاً حول من يستحق التشجيع في المملكة العربية السعودية. فعلى الرغم من جميع التحديات التي يواجهها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلّا أنّ جميع الأوروبيين الذين التقيتُ بهم يدعمونه بشكل لا لبس فيه في سعيه لعصرنة السعودية. ويعتقدون بأنه مع مرور الوقت، إذا نجح بن سلمان في مسعاه، فإن الإصلاح سوف يضعف الدعم للتطرف الديني السعودي في الخارج، مما يؤثر على أوروبا وإسرائيل في الداخل والخارج معاً. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد أوضح محمد بن سلمان بأنه لا يرى أن إسرائيل تشكل تهديداً، بل حليفاً محتملاً.
وخلاصة الأمر أنه ليس من الصحيح القول بأن إسرائيل من كوكب الزهرة والأوروبيين من كوكب المريخ. فكلاهما يشاركان بعض الافتراضات المشتركة الهامة حول المنطقة، فضلاً عن بعض الاختلافات الرئيسية، وهي القضية الفلسطينية، التي يبدو أن الهوّة حولها لا تزال آخذة في الاتساع.
ومع ذلك، فمن الواضح أنه من الأفضل للأوروبيين والإسرائيليين على حد سواء عدم اعتبار الآخر موضع سخرية، وهو اتجاه سلبي يسود منذ عدة أعوام، وعليهم استغلال الأرضية المشتركة للتوافق لخدمة مصالحهما.
ديفيد ماكوفسكي
معهد واشنطن