ومع تنامي الشكوك بوجود مؤامرة تنفذها “الاستبلشمنت”، بقيادة نخب الساحل الشرقي، لدفع البلاد إلى التورط في صراعات القارة الأوروبية خدمة لمصالحها الاقتصادية الكبيرة، تنامت النزعات الشعبوية والانعزالية لدى الناخب الأميركي، وازداد رفضه أي محاولة لجر البلاد إلى لعب دور قيادي في الحفاظ على استقرار النظام الدولي الذي أنشأه مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى (1919).
مخاوف أوروبية
يخشى كثيرون من نخب أوروبا الأكاديمية والفكرية من أن هذا “الفيلم” يتكرّر اليوم، ويحذرون من الاكتفاء بالمشاهدة، فالمد الليبرالي العالمي يمر الآن في أضعف حالاته منذ نهاية الحرب
الباردة، ودول ديمقراطية كثيرة، بما فيها الأكثر عراقة، تعيش حالة أزمة، تبدو معها هشّة، ضعيفة، ومنقسمة على ذاتها، تتنامى في دواخلها النزعات اليمينية والشعوبية. ولم يعد الحديث يقتصر هنا على مخاوف تتعلق بمستقبل الديمقراطية – الليبرالية في دول أوروبا الشرقية حديثة العهد بها، مثل بولندا وهنغاريا (المجر)، حيث سيطرت أخيرا أحزاب يمينية متطرّفة، بل عن دول عريقة في العالم الليبرالي الغربي من أصغرها (النمسا) إلى أكبرها (الولايات المتحدة). أما الحرب الأهلية التي تقوم مقام الحرب الأسبانية اليوم فتجري، برأي هؤلاء، في سورية التي تحولت ساحة تنافسٍ إقليمي دولي، حيث تخاض واحدة من أعقد حروب الوكالة وأشرسها منذ الحرب الإسبانية (1936 – 1938). كل هذا يحدث فيما تتزايد الشكوك بشأن رغبة أميركا وقدرتها على القيام بدورها في الحفاظ على استقرار النظام الليبرالي الدولي، والتصدّي للقوى السلطوية التي تحاول تقويضه، وفي مقدمتها روسيا والصين. الأسوأ أن السلطة في الولايات المتحدة تقع اليوم بيد رئيس شعبوي، لديه هو نفسه ميول استبدادية ومتعاطف مع قواها في العالم، ومنخرط في صراع مرير مع “الإستبلشمت” في الوقت الذي يعيش فيه المجتمع الأميركي حالة تمزق وانقسام غير مسبوقة.
هل تسمح لنا هذه المقاربة باستنتاج أننا أمام انهيار محتمل للنظام الليبرالي الدولي القائم شبيه بالذي حصل أواخر ثلاثينات القرن الماضي، كما يتخوف بعض الأوروبيين؟ ربما! فالضغوط التي يتعرّض لها هذا النظام (في أوروبا تحديداً) تكاد تكون غير مسبوقة، إذ تأتي من جهتين، إذا نُظر إلى المسألة من زاوية أيديولوجية، من خارجه ومن الداخل.
من الخارج، تسعى الدول اللاديمقراطية الكبرى (روسيا والصين)، وتدعمهما في ذلك قوى إقليمية متوسطة (مثل إيران)، لتغيير طبيعة النظام الدولي الذي أنشأته القوى الديمقراطية الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وقلب موازين القوى التي ما زالت تميل لصالحها حتى الآن على الأقل، مع استمرار هيمنة المؤسسات المالية والمصرفية والاقتصادية الغربية (مؤسسات بروتن وودز) والعسكرية (حلف الناتو).
أما من الداخل، فتتكفل إدارة ترامب بعملية الهدم لنظام ما عادت واشنطن ترى أنه يخدم مصالحها بالطريقة التي كان عليها، ولذلك لا ترى مشكلة في تقويضه، أو على الأقل، لا تبالي بمحاولات الآخرين تقويضه. لهذا السبب، ترتعد فرائص الأوروبيين من سياسات الرئيس ترامب، القائمة على شعار “أميركا أولاً”، وإعلاء المكاسب المادية والتجارية على الاعتبارات الاستراتيجية الكبرى، والتي تؤدي إلى النتائج نفسها التي يسعى إليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أي تقويض أسس النظام الليبرالي العالمي. فالرئيس ترامب، ومن ورائه تيار شعبوي قومي انعزالي لا يستهان بحجمه في الولايات المتحدة، يرى أن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية الاقتصادية والتجارية والأمنية ما عادت تناسبه، أو تحقق المصالح الأميركية كما يجب، فدافع الضرائب الأميركي، برأيه، يتكفل بدفع تكاليف حماية حلفائه الذين يحظون، لهذا السبب، بمزايا صحية وتعليمية ومعيشية، لا يحظى هو بها (تدفع الولايات المتحدة 73% من ميزانية “الناتو”، فيما خمس الأميركيين غير قادرين على تأمين وجباتهم الغذائية اليومية). بالنسبة إلى ترامب، لن يُقبل راكب مجاني في قاطرته بعد اليوم، ومن لا يدفع لن يحظى بالحماية. وفي هذا تقويض لأحد أهم المبادئ التي قام عليها النظام الليبرالي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، أي مبدأ الأمن الجماعي (الواحد للكل والكل للواحد). إدارة ترامب ظهره لحلف الناتو، أو تهديده بذلك، يدفع الأوروبيين إلى البحث عن بدائل، ما حدا بهم، في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى إعلان قيام جيش أوروبي بقيادة ألمانية أطلقوا عليه اسم (permanent structured cooperation-Pesco)، في محاولة منهم لزيادة الاعتماد على الذات، لمواجهة سياسات روسيا العدائية، ومخاوف من تلكؤ واشنطن في الدفاع عنهم، إذا استدعت الحاجة.
أما التجارة الحرة، وهي الركن الثاني الذي قام عليه النظام الليبرالي العالمي، فيرى ترامب وقاعدته الانتخابية أنها تدمر الاقتصاد والمجتمع الأميركي، وتتركه ليس فقط عاطلاً عن العمل، بل مستهلكًا لبضائع الآخرين، ومساهمًا في إيجاد فرص عمل لهم. وفي ظل عجز تجاري أميركي بلغ 502 مليار دولار في العام 2016 و745 مليار دولار في 2015، ذهبت إدارة ترامب باتجاه سياساتٍ حمائيةٍ بدأتها من خلال فرض رسوم وضرائب باهظة على الواردات من الدول التي تعاني من عجوز تجارية كبيرة معها، وهي على التوالي الصين وألمانيا والمكسيك، كما انسحبت من بعض اتفاقات التجارة الحرة الثنائية أو المتعددة الأطراف (19 اتفاقية)، وهدّدت بالانسحاب من بعضها الآخر، إذا لم تتم إعادة التفاوض عليها. هذه السياسات التي تقوّض مبدأ التجارة الحرة سيكون لها تداعيات كبيرة على بنية النظام الليبرالي الدولي، كما أنها ستترك آثارا عميقة على أكبر الاقتصادات في العالم، فالسياسات الحمائية تحدّ من النمو في الدول التي تعتمد على التصدير، وتتسبب في إغلاق المصانع، وفقدان الوظائف وصعود الشعبوية والنزعات القومية من نمط ما نشهده اليوم في أكثر دول أوروبا. ويترجم ذلك بوصول أحزاب تعكس هذا المزاج الشعبي القلق إلى السلطة، ويدعو أكثرها إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والانغلاق على الذات، ما يؤدي إلى تفكيك هذا الكيان الفوق – قومي، وعودة النزاعات إلى القارة العجوز، مع انهيار مبدأي الأمن الجماعي والأسواق المفتوحة، وقيام كل دولة بالبحث عن أمنها وازدهارها بشكل فردي، وهذا تماما ما يريده الرئيس بوتين.
يشعر الأوروبيون اليوم أنهم محاصرون جيوسياسيا بقوتين كبيرتين تسعيان، كل منهما لأسبابها، إلى تفكيك نظامهم الديمقراطي الليبرالي الذي أخرجهم من جحيم قرون من التنافس والتناحر، روسيا التي تضغط عليهم من الشرق والولايات المتحدة، بقيادة ترامب، التي تضغط عليهم من الغرب. لذلك تجدهم في حالة من الذعر الشديد، وهم يحاولون فعل شيء تجاه التحدّي الأكبر الذي يواجههم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن قدرتهم على النجاح تبدو محدودةً، بسبب انقساماتهم، وحساباتهم الانتخابية الصغيرة، وانسياقهم وراء إرضاء ناخبٍ قصير النظر، وغير مهتم بما يجري وراء الحدود، ولا يبذل أحد جهدا في تثقيفه بالمخاطر الكبرى التي تنتظره.
الخطأ في سورية
سوف يدرك الأوروبيون، وأنصار الديمقراطية – الليبرالية في العالم، متأخرين كعادتهم، حجم الخطأ الذي ارتكبوه في سورية، عندما تركوها تسقط بيد القوى غير الديمقراطية (روسيا وإيران والصين)، ووقفوا يتفرّجون من دون اهتمام كبير بنتائج الصراع الدائر فيها، إلا من بوابة أنها منبع لاجئين وإرهابيين. وإذا كانت سورية تؤدي، برأي هؤلاء، الدور الذي أدته الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي باتجاه إسهامها في تغيير بنية النظام الدولي الذي نشأ في ما بين الحربين، فقد كان الأجدر اتباع استراتيجية أكثر فاعلية للحيلولة دون انتصار قوى الهدم في هذا النظام. وفيما ساهمت سورية في إنتاج معسكر دولي، يضم قوى الاستبداد على امتداد العالم، رصت صفوفها جميعا وراء هدف هزيمة فكرة الحرية، لم نجد، في المقابل، للديمقراطيين عزماً، إذ وقفت قواهم متردّدة عاجزة وهشة، تبحث عن مصالح آنية وذاتية، زادها سوءاً وصول اليمين الشعبوي إلى قيادة المعسكر الليبرالي الغربي وهو ينادي بـ “أميركا أولاً”.
بات واضحا أن نتيجة الصراع في سورية ستؤدي دورًا مهمًا في تحديد مصير النظام الدولي القائم منذ نهاية الحرب الباردة، فإذا انتصرت قوى الاستبداد في هذه المعركة، فالأرجح أن التداعيات على النظام الليبرالي العالمي سوف تكون كبيرة وخطيرة، وسنذهب حتماً نحو سيطرة أكبر لروسيا والصين وإيران وشركائهم، ومن يظن أنه في منأىً عن تداعيات ذلك، فهو لا شك غافل أو متغافل أو جاهل مثل دونالد ترامب.