طوى العراق صفحة المعارك الميدانية مع تنظيم “داعش” الإرهابي، لينهي هذه الحقبة الميدانية التي كلفت البلاد الكثير، خلال أكثر من ثلاث سنوات مضت تلت اجتياح التنظيم مناطق في يونيو/ حزيران 2014. وأسفرت الحرب عن خسائر كبيرة في البنية التحتية في المدن المحررة، من جسور ومجمعات تجارية ومستشفيات وجامعات ومدارس ودوائر حكومية وخدمية ومحطات الماء والكهرباء ومئات المعامل والمصانع وآلاف المنازل، وعشرات المجمعات السكنية، سببت تعطيل الحياة فيها، رغم عودة كثير من النازحين. ولا يعني انتهاء المعارك الميدانية مع التنظيم نهاية أزمات ومشاكل العراق، فما زالت البلاد تواجه تراكمات كبيرة من الأزمات الخطيرة،إنّ “انتهاء صفحة “داعش” هي مرحلة مهمة للعراق، لتبدأ مرحلة الاستقرار والإعمار. ونظرًا لأهمية هذه المرحلة اندفع العراق صوب بيئته العربية حيث تتّجه أنظار الحكومة العراقية بشكل مركّز صوب عواصم الدول العربية الأكثر غنى، بحثا عن توفير جزء من الغلاف المالي الكبير المقدّر بعشرات المليارات من الدولارات لعملية إعادة إعمار ما دمّرته حرب داعش، وهي عملية ضرورية في إخراج البلد من فترة الحرب نحو مرحلة منشودة من الأمن والاستقرار والتنمية.
وفي هذا السياق أعلنت دولة الكويت في 8كانون الثاني/ يناير الماضي رسميا استضافتها للمؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق الشهر الحالي، وأكد خالد الجار الله نائب وزير الخارجية الكويتي -في مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام لمجلس الوزراء العراقي مهدي العلاق- دعم بلاده المستمر للعراق، إيمانا منها بأن استقرار العراق من استقرار الكويت والمنطقة.وشدد الجار الله على أن المؤتمر -الذي سيعقد بين 12 و14 شباط،فبراير الحالي- سيختلف عن المؤتمرات السابقة من النواحي التنموية في أبعاده الإنسانية، وأيضا عبر إفساح المجال للقطاع الخاص للمشاركة في إعادة إعمار العراق.من جهته كشف العلاق أن تكلفة إعادة إعمار العراق لا تقل عن 100 مليار دولار، مؤكدا تطلع بلاده لمساهمات من مختلف دول العالم.
وتقدر تقارير محلية عراقية مجموع الخسائر التي تكبدتها مدن غرب وشمالي العراق بأكثر من 100 مليار دولار تشمل البنى التحتية لتلك المدن، كشبكات الطرق والجسور والسدود ومحطات الكهرباء والماء والصرف الصحي والاتصالات والمستشفيات والمدارس والمعاهد والجامعات والقطاع الزراعي والحيواني، فضلا عن مباني ومؤسسات الدولة الخدمية الأخرى التي طاولتها يد التدمير بفعل العمليات الإرهابية والقصف الجوي للتحالف الدولي خلال معارك إخراج تنظيم “داعش” من المدن. وتعتبر مدن الفلوجة والموصل والرمادي وتكريت والحويجة والرطبة وهيت وجرف الصخر وبيجي أكبر المدن من حيث الأضرار، حيث تصل في بعضها إلى نحو 80%.
ويتطلع العراق إلى هذا المؤتمر، الذي ستشارك فيه عدد من الدول المانحة لدعمه الذي يمر بأزمة مالية كبيرة، نتيجة نفقات الحرب التي انتهت بالسيطرة على آخر معاقل “داعش”، ما يفسح المجال للشركات الأجنبية والعربية بدخول تلك المدن، والمباشرة بمرحلة إعادة الإعمار، أو دعم العراق بالأموال اللازمة للشروع بذلك. ويُنظر إلىه أيضًا باعتباره اختبارا عمليا مزدوجا: للدول العربية ومدى جدّيتها في احتضان العراق ومساعدته على تخطّي مخلّفات الحرب المرهقة على تنظيم داعش، ولحكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وقدرتها على تعديل بوصلة العلاقات الإقليمية للبلد وإحداث التوازن في العلاقة مع كلّ من إيران وكبار منافسيها في المنطقة وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
وتقول مراجع سياسية عربية إنّ استعادة العراق إلى الحاضنة العربية بند مطروح بالفعل على أجندة كبار صنّاع القرار وتمّ التداول بشأنه بين كبار المسؤولين العرب في عدّة مناسبات.ويرى مراقبون أنّ بعض البلدان العربية بما تمتلكه من مقدّرات مالية واقتصادية ستكون خلال فترة الاستقرار والإعمار في العراق أقدر من إيران على التأثير في الداخل العراقي، إذا ما أحسنت توظيف مساعداتها للبلد في ما يخدم إعادة بنائه بعد ما طال مناطقه من دمار كبير في الحرب ضدّ تنظيم داعش.ومن أبرز الزيارات التي شهدها بغداد مؤخرا، زيارة وفد مصري رفيع يقوده إبراهيم محلب أحد مساعدي الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وقطعت الرياض خطوات كبيرة نحو إعادة تأسيس علاقاتها مع بغداد. وأنهت السعودية ما يقارب الربع قرن من القطيعة في العلاقات مع العراق وأعادت تعيين سفير لها في بغداد، واستقبلت الرياض خلال العام الماضي عددا من الشخصيات العراقية على رأسهم رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي شهدت زيارته في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي الإعلان عن إنشاء مجلس التنسيق السعودي العراقي. حيث اتخذت تلك الخطوات سمات دبلوماسية واقتصادية وسياسية وأمنية شاملة بإعادة افتتاح السفارة السعودية في العراق وإنشاء مجلس التنسيق السعودي العراقي ووضع برامج مشتركة لمراقبة الحدود بين البلدين وضبطها منعا لتسلّل العناصر الإرهابية. ويمثّل الجانب الأمني أحد مجالات توسيع التعاون والتنسيق بين السعودية والعراق في المرحلة القادمة إذ يواجه البلدان عددا من التهديدات المشتركة على رأسها خطر التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم داعش الذي انهزم في العراق، لكّن فلوله وخلاياه النائمة ستظلّ تشكّل تهديدا لأمن المنطقة لسنوات قادمة.ورفدت السعودية خطوات تقاربها السريع مع العراق، مؤخّرا، بخطوة رمزية بالغة الدلالة تمثّلت في سحب ترشيح الرياض لتكون عاصمة للإعلام العربي 2018، لمصلحة بغداد “تقديرا لدور العراق في محاربة الإرهاب”، ما سهّل فوزها باحتضان هذه التظاهرة. وفي أحدث خطوات التقارب السعودي العراقي أعلن ماجد القصبي، وزير التجارة والاستثمار السعودي أن سفارة بلاده في بغداد ستشرع في إصدار تأشيرات دخول العراقيين للمملكة، بدلا من إصدارها من العاصمة الأردنية عمّان.
ويبدو توجّه العراق إلى بلدان عربية مثل السعودية، بحثا عن تمويل مشاريع الإعمار أمرا واقعيا ومبرّرا نظرا لما تمتلكه تلك البلدان من مقدّرات مالية لا تتوفّر لغيرها وخصوصا لطهران التي تعاني بدورها مصاعب اقتصادية انعكست على الوضع الاجتماعي لمواطنيها وفجّرت غضبهم واحتجاجاتهم، غير أنّ مراقبين يلفتون إلى أنّ الأمر لا يخلو من مفارقة تتمثّل في أنّ بغداد مرتبطة سياسيا بإيران وتفتح لها بابا واسعا للتدخل في الشأن السياسي وحتّى الأمني والعسكري للعراق، فيما تتجه صوب العرب حين يتعلّق الأمر بطلب مساعدات مادّية متسائلين عن مدى تأثير ذلك على مستوى تجاوب بلدان مثل السعودية مع مطالب حكومة العبادي. ويجيب البعض بأنّ الرياض المدركة لحجم التأثير الإيراني في العراق، تسلك سياسة اليد الممدودة باتجاه بغداد بهدف الحدّ من ذلك التأثير والعمل على استعادة البلد إلى حاضنته العربية عبر نسج شبكة من المصالح معه. ويتوقّع متابعون للشأن العراقي أن تبدي المملكة قدرا من التجاوب مع طلب المساعدة العراقية في مجال الإعمار تشجيعا لرغبة الانفتاح على المحيط العربي التي أظهرتها الحكومة العراقية الحالية بقيادة حيدر العبادي قياسا بما كان يبديه سابقه نوري المالكي من تشدّد ومبالغة في التبعية لإيران، إلاّ أنّ هؤلاء يتوقّعون أن تتريث الرياض في خطوات تقاربها مع بغداد بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات العراقية القادمة المقرّرة مبدئيا لشهر مايو المقبل وطبيعة الحكومة التي ستفرزها والتوجّهات التي ستسلكها تلك الحكومة في سياستها تجاه دول الإقليم.
خلاصة القول يمكن أن يلعب الدعم العربي للعراق دورا حاسما في موازنة النفوذ الإيراني في البلاد قبيل انتخابات حاسمة في مايو القادم. وشهدت الكواليس السياسية في بغداد تطورات متسارعة خلال الأسابيع القليلة الماضية، قادت إلى حشد معظم حلفاء إيران من العراقيين في تكتل سياسي واحد يستهدف منع العبادي من الحصول على ولاية ثانية في منصب رئيس الوزراء. كلا الطرفين، العراق ودول محيطه العربي، أمام اختبار تصحيح العلاقة بينهما وفتح صفحة جديدة من التواصل والتعاون والوفاق.. فعلى بغداد إثبات جدّيتها وقدرتها على الفكاك من الارتهان لطهران والتبعية لها. وعلى العواصم العربية إقناع العراقيين بشكل عملي، بفاعلية دورها في مساعدتهم على تحقيق الاستقرار والتنمية وتجاوز مخلّفات حرب داعش في بلدهم.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية