حسب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون فإن وضع بلاده مع تركيا «عند نقطة حاسمة في العلاقات»، وهذا، في الحقيقة، أقلّ ما يمكن قوله في هذه المرحلة التي شهدت تباعداً كبيراً لأنقرة عن حليفتها الكبيرة المفترضة في واشنطن.
تيلرسون الذي التقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لعدة ساعات أول أمس كان أكثر واقعية من وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي كان حديثه قبل أيام عن الفصل بين «الاتحاد الديمقراطي» و«العمال الكردستاني» مثار سخرية نظيره التركي نور الدين جانيكلي فـ«الاتحاد الديمقراطي» لا يستطيع أن يحارب «العمال الكردستاني»، كما اقترح ماتيس، لأن الذيل لا يستطيع أن يحارب الرأس، والفروع لا يمكن أن تحارب مركز القيادة الذي يصدر الأوامر إليها، كما قال جانيكلي.
وإذا كان دعم الولايات المتحدة الأمريكية للقوات الكردية السورية التابعة لـ«حزب العمال» وصولاً إلى إعلانها مؤخراً تشكيل جيش «لحماية الحدود السورية مع العراق وتركيا»، كان القشّة التي أجّجت غضب أنقرة التي دفعت بقوّاتها المسلّحة للسيطرة على بؤرة تمركز «حزب العمال» في عفرين، فإن هذا التوتّر جاء ضمن سياق طويل.
شكّلت الأحداث في سوريا خزّاناً لتراكم غضب أنقرة وتصاعد إحساسها بالخيانة الأمريكية، ولم تكتف واشنطن بلعب دور كبير في كبح طموح تركيّا لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد عبر دعم المعارضة السورية المسلحة وتثبيتها كبديل شرعيّ للنظام، ولكنّها تخلّت عنها أيضاً حين دخلت في مجابهة عسكريّة مع روسيا، وتحالفت مع «حزب العمال الكردستاني التركي» عبر دعم فرعه السوريّ بحيث حوّلته إلى قوّة ضاربة وزوّدته فعليّاً بإمكانيات دولة كرديّة معادية لتركيا.
وكانت محاولة الانقلاب العسكري في 2016 وردود الفعل الأمريكية الغامضة تجاهها نقطة مهمّة أخرى في اجتماع إحساس الغضب والخيانة لدى الأتراك ما ساهم في اتجاه حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكمة نحو ابتعاد مستمرّ عن واشنطن، وهو ما عنى، في حسابات السياسة، اقتراب أنقرة الاضطراري من خصوم الولايات المتحدة الكبار في الشرق الأوسط: روسيا وإيران.
مسلسل الضغوط المتبادلة بين البلدين شهد فصولاً أخرى فبعد اعتقال السلطات التركية أحد العاملين في القنصلية الأمريكية في إسطنبول واستدعاء آخر للتحقيق معهما في تهم تتعلق بما تسميه أنقرة «التنظيم الموازي» من جماعة الداعية فتح الله غولن، فجمدت الممثليات الأمريكية في تركيا قبول طلبات التأشيرة، كما قامت سلطاتها باعتقال مصرفي تركي وتوجيه تهم له بخرق عقوبات واشنطن على إيران وقضايا أخرى، وهو ما اعتبره الرئيس التركي إردوغان محاولة انقلاب جديدة ضد تركيا بمضمون سياسي وليس عسكريا.
وإذا كان الاتفاق التركي ـ الأمريكي الأخير لا يلبّي فعلاً طلبات الطرفين، فإنه، مع ذلك، يؤكد عدة حقائق، منها أنه كما أن تركيا لا تستطيع تجاهل القوّة العظمى ونفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري الخطير في العالم، فإن الأمريكيين لا يستطيعون أيضاً تجاهل الوزن الكبير لتركيا في العالم، وكما يعتبر الأمريكيون حربهم على الحركات الجهادية المسلّحة أولوية في العالم الإسلامي، فإن الأتراك لا يستطيعون تجاهل الخطر الذي تشكّله دولة كرديّة يقودها حزب معاد لهم.
وحين يستطيع الأمريكيون فهم هذه المعادلة البسيطة فإن الكثير من الأشياء ستتغير.
صحيفة القدس العربي