قبل عام، لم نكن نحن في فلسطين، مثل أي أحد آخر، نعرف ما قد يجلبه ترامب كرئيس. واليوم، أصبحنا نعرف: لقد انحاز إلى الجانب الإسرائيلي في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، في حين ضرب بعرض الحائط أدوار القانون الدولي، والمنظمات الدولية والتقاليد الدبلوماسية الأميركية الخاصة بعملية السلام في الشرق الأوسط.
وبعمله ذلك، يكون قد نزع أهلية أميركا لأن تكون الوسيط الأوحد في ذلك الجهد. والسؤال الآن هو ما إذا كان هذا الواقع يفتح فرصة للسعى إلى تحقيق السلام بطرق أخرى، أم أنه يعني نهاية أي فرصة لصنع السلام.
لقد دفع فريق الرئيس ترامب للشرق الأوسط كل المنطقة إلى التساؤل عما قد يدور في خلدهم الآن. كيف يستطيع أناس ملتزمون مالياً وأيديولوجياً بمؤسسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي تنتهك القانون الدولي وتسعى إلى التهام المزيد من الأرض التي يتعبرها العالم أراض فلسطينية محتلة، كيف يستطيع هؤلاء التوسط من أجل الوصول إلى حل عادل؟ لقد كشف تعيين ديفيد فريدمان، المرتبط بقوة بالمؤسسة الاستيطانية، سفيراً إلى إسرائيل، أن السيد ترامب ليس مهتماً بالاستماع إلى الفلسطينيين أو إلى العديد من يهود التيار السائد أو الأميركيين المؤيدين لإسرائيل، الذين يعارضون هذا التعيين -إلى جانب المنظمات العربية الأميركية والعشرات من أعضاء الكونغرس الأميركي.
إن إدارة ترامب، التي تحمِّل الفلسطينيين المسؤولية عن الجمود الأخير، لا تذكر أن رئيسنا، محمود عباس، حاول الانخراط بشكل بناء مع الإدارة. وفي العام الماضي، في الفترة ما بين 7 شباط (فبراير) و30 تشرين الثاني (نوفمبر)، عقدنا أكثر من 30 اجتماعاً مع مسؤولي الإدارة، بما فيها أربعة اجتماعات بين الرئيسين. وخلال تلك الفترة، اتخذ الفريق الفلسطيني مبادرات في تقديم مواقف وخرائط واستجابات مفصلة لمواقف الطرف الآخر.
لكن ذلك لم يجلب لنا شيئاً. وبدلاً من ذلك، تخلى الرئيس ترامب عن عقود من السياسة الأميركية وتوقف عن انتقاد انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان واستمرارها في البناء الاستيطاني. وسرعان ما تغير العذر الذي تذرعت به الإدارة لعدم إقرار حل يقوم على مبدأ الدولتين -من أنه سيجعل الولايات المتحدة منحازة- إلى إمكانية الموافقة على هذا الحل إذا قبل به الطرفان. لكن ذلك لم يكن تنازلاً؛ فقد أعطى لرئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، سلطة حق النقض على حل الدولتين.
وينطوي ذلك على مفارقة، لأن الولايات المتحدة كانت قبل ثلاثة عقود قد جعلت من القبول بحل قائم على أساس الدولتين شرطاً جوهرياً لفتح محادثات رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية. وعندما اعترفت المنظمة بحدود العام 1967 مع إسرائيل، فقد خلق ذلك توافق آراء في فلسطين وإسرائيل والولايات المتحدة وبقية العالم حول الطريق نحو السلام.
الآن، أعطى الرئيس ترامب غطاء لأكثر وجهات النظر تطرفاً بين الجمهور والمسؤولين الإسرائيليين الذين يصبحون أكثر يمينية باطراد. وقد زودناهم بكل مواقفنا إزاء تحقيق سلام دائم، لكننا لم نتلق رداً. ولأن الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض حل الدولتين، يرفض جيسون غرينبلات، ممثل الرئيس ترامب للمفاوضات الدولية، وجاريد كوشنر، مبعوثه للشرق الأوسط، مناقشة أي من القضايا الجوهرية اللازمة لتحقيق السلام.
يبدو الأمر كما لو أننا عدنا وراءً في الزمن -إلى ما قبل أوسلو- من دون اعتراف بالتنازلات المؤلمة التي قدمها الفلسطينيون من أجل تحقيق السلام، بما فيها الاعتراف بإسرائيل ومحاولة بناء دولة على 22 في المائة فقط من الأرض في فلسطين التاريخية 1948.
في أحد الاجتماعات، قلنا لمبعوثي السيد ترامب كم هي القدس مهمة لفلسطين. وفي حين أننا نعترف ونحترم علاقتها العميقة بالأديان التوحيدية الثلاثة، فإن المدينة أيضاً هي قلب شعبنا -مسلمين ومسيحيين- كأمة. ولذلك أيدنا جعل القدس مدينة مفتوحة مع ضمان حرية الوصول للجميع، وإقامة عاصمة فلسطينية سيادية في القدس الشرقية. وبدلاً من ذلك، قرر السيد ترامب الشهر الماضي إزالة موضوع القدس “من على الطاولة” -وهي خطوة شجعت الإسرائيليين على انتهاج سياسات في القدس الشرقية المحتلة، والتي تسعى إلى ترحيل السكان الفلسطينيين بالقوة إلى خارج المدينة.
لقد انتهك الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 478، وحظر الميثاق العام للأمم المتحدة حيازة الأرض بالقوة؛ كما أنه تعارض أيضاً مع إعلان الولايات المتحدة في العام 1991 بأن الوضع النهائي للقدس يجب أن تقرره المفاوضات، وبأن الولايات المتحدة لا تعترف بضم إسرائيل للقدس الشرقية أو توسيع حدودها البلدية.
الآن، ينخرط الرئيس ترامب في مسرحية أخرى للقوة -إزالة قضية اللاجئين من على الطاولة أيضاً. وهو يفعل ذلك من خلال إجراء تخفيض حاد على التمويل الأميركي لوكالة الإغاثة المعروفة باسم “أونوروا”، وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة وليست مرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تقدم الخدمات التي تمس الحاجة إليها بشدة لملايين اللاجئين الفلسطينيين. فما الذي سيفعله تالياً؟ لقد تحولت “الصفقة النهائية” التي وعد بها الرئيس ترامب إلى “صفقة إنذار أخير”.
عندما قرر الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنه وضع الفلسطينيين في موقف مستحيل وانضم إلى إسرائيل في “لعبة اللوم”. لكن هذا الأمر ليس لعبة بالنسبة لنا. إنه يتعلق بوجودنا نفسه وباحترام القانون الدولي. وتندرج هذه السياسة في مكان بعيد خارج القانون الدولي والإجماع السياسي، وهو ما جعل الولايات المتحدة غير مؤهلة للعب دور الوسيط الوحيد في الشرق الأوسط.
كانت فلسطين اختباراً فاشلاً بالنسبة للمجتمع الدولي. وعلى العالم أن يبدأ الآن بمساءلة إسرائيل وتحميلها المسؤولية عندما تنتهك القانون الدولي، وأن يعمد إلى صنع مظلة دولية للمفاوضات. ومنذ إعلان الرئيس ترامب الخاص بالقدس، التقينا مع قادة في الدول التي قد تساعد على السعي إلى سلام جديد -روسيا، والصين، واليابان، وجنوب أفريقيا والهند، إلى جانب أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويوم الثلاثاء المقبل، سوف يتحدث الرئيس عباس إلى مجلس الأمن لتقديم رؤية للسلام. ونحن نخطط للتحرك نحو إجراء انتخابات وطنية يمكن أن يشارك فيها كل الفلسطينيين، بمن فيهم الذين في الشتات، بهدف تحقيق تمثيل أفضل، والمزيد من الدعم للاجئينا وتعزيز صمود شعبنا تحت الاحتلال.
لقد أعاد الرئيس ترامب، للأسباب الخطأ، وضع القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية. وإذا فتح عجز إدارته عن أن تكون وسيطاً نزيهاً الطريق أمام أطراف أخرى لتصبح وسطاء، فإن فلسطين تستطيع أن تنخرط في مناقشات هادفة حول التوصل إلى سلام عادل ودائم. ويجب أن يبدأ ذلك مع إطار زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي 1967، والتي تكون القدس الشرقية عاصمتها -وهو اقتراح قدمته وأعادت التأكيد عليه الجامعة العربية. وبذلك سوف يستعيد الفلسطينيون حقوقهم غير القابلة للتصرف، وستتمتع إسرائيل بعلاقات طبيعية مع المنطقة.
لا يمكن سوى لمثل هذا الجهد الدولي أن يعالج توازنات القوة غير المتكافئة، ويعلي من شأن القانون الدولي، ويقدم لشعبنا مستقبلاً واضحاً من الأمل، والحرية، والعدالة والسلام.
صائب عريقات
صحيفة الغد