في فترة حصول «الركود الكبير» الأميركي في خريف عام 2008، زار وفد اقتصادي صيني الولايات المتحدة وعقد لقاءات مع المسؤولين الكبار والخبراء الأميركيين. وفيما كان الصينيون يستمعون إلى متحدثين في ندوة عن ضرورة ترشيق القطاع العام وإطلاق يد القطاع الخاص في الاقتصاد، اعترض أحد المشاركين الصينيين قائلاً إن هذه النصائح هي «وجهة نظر»، إذ للصين تجربة مختلفة أدت إلى نتائج باهرة في النمو الاقتصادي. فردّ أميركيون بالقول إن ما يعترض عليه زميلهم الصيني، هي مبادئ معروفة باسم «إجماع واشنطن»، ليرد الصينيون «أهلاً بكم إذاً إلى إجماع بكين».
وشرح الاقتصادي الصيني «إجماع بكين»، موضحاً أنه مزيج من «اليد الخفية» للسوق مع «اليد الظاهرة» للحكومة، ويمكن الحكومة أن تلعب دوراً كبيراً في توجيه القطاع الخاص وحفزه لتأكيد استمرار النمو. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، تراجع نمو الناتج المحلي الصيني إلى نصف ما كان عليه ليصل الى أدنى مستوياته في 26 عاماً في 2017، مسجلاً معدل نمو بلغ 6.8 في المئة، وهو منخفض بحسب الأرقام الصينية. وليس تراجع النمو الصيني إلى نحو النصف المشكلة الوحيدة، بل تكمن أيضاً في إدمان بكين على حقن اقتصادها بالديْن لحمله على الاستمرار في النمو، وكانت الخطوة الأخيرة في هذا الإطار إيعازها لشركات الإقراض الحكومية، بشراء سندات الخزينة التي أصدرتها الحكومات المحلية بسبب كسادها في السوق، وهي خطوة بدت وكأنها إنقاذ حكومي لاقتصاد يترنح.
وبسبب إدمان بكين على تمويل نمو اقتصادها بالديْن، فهو ارتفع إلى نحو 5 ترليونات دولار أو ما يوازي 50 في المئة من ناتجها المحلي. في وقت يشير اقتصاديون إلى مديونية صينية أكبر تختبئ في حسابات الحكومات المحلية والشركات الحكومية الضخمة، في ظل غياب شبكات الأمان الحكومية الاجتماعية، ووسط تركيبة سكانية تواجه تسارع الشيخوخة في صفوفها.
أميركا برئاسة دونالد ترامب قررت حذو الصين، وأن تعمد إلى تمويل نموها بالديْن، فمع إقرار الكونغرس قانون الخفوضات الضريبية، توقع «مكتب موازنة الكونغرس» الحكومي والمستقل حزبياً، أن يرتفع العجز السنوي لموازنة حكومة الولايات المتحدة الفيديرالية من 519 بليون دولار العام الماضي الى 955 بليوناً هذه السنة، أي بنسبة 84 في المئة، وهي زيادة كبيرة ستؤدي إلى رفع الديْن العام، الذي تعدى نسبة 100 إلى الناتج المحلي بوتيرة أسرع، مع توقع المكتب أن ينفد المال بحوزة وزارة الخزانة منتصف الشهر المقبل، بدلاً من منتصف نيسان (أبريل)، بحسب ما كان متوقعاً قبل صدور القانون، ما يتطلب إصدار الكونغرس قانوناً لرفع سقف الاستدانة الحكومية.
ويترافق الارتفاع المتوقع للعجز السنوي في الموازنة، وتالياً الديْن الأميركي العام، مع وصول العجز التجاري في البلاد إلى مستويات لم يشهدها منذ ما قبل «الركود الكبير» عام 2008، إذ أظهرت بيانات وزارة التجارة، أن العجز بلغ 566 بليون دولار عام 2017، بزيادة تعدت 12 في المئة عن عام 2016.
والعجز التجاري ينتقص من نمو الناتج المحلي، وبحسب أرقام العام الماضي، بلغ العجز 2.9 في المئة من حجم الاقتصاد، ما يعني أن من دون العجز لكان معدل النمو الاقتصادي قارب نسبة 6 في المئة عام 2016.
ويترافق ارتفاع الديْن العام الأميركي مع وعد ترامب، بتقديم خطة إعادة تأهيل البنية التحتية وتطويرها، مع تمويل الحكومة لثلث تكاليف مشروع ضخم من هذا النوع، يتوقع الخبراء أن تناهز كلفته تريليون دولار. والاستدانة الحكومية لتمويل مشاريع بنية تحتية، وتالياً رفع نسبة نمو الناتج المحلي، هي واحدة من الأساليب المفضلة لدى الحكومة الصينية.
كيف يمكن ترامب، الذي وعد ناخبيه بالقضاء على العجز التجاري، خصوصاً مع الصين الذي بلغ 375 بليون دولار العام الماضي، أن يقنع هؤلاء الناخبين بأنه وفى بوعوده؟ وكيف يمكن ترامب الذي وعد مؤيديه الذين يطلقون على أنفسهم تسمية «المحافظين مالياً»، ويعارضون أي زيادة في الإنفاق الحكومي أو العجز أو الديْن بالإنفاق الرشيد، أن يبرر لهم الارتفاع الهائل في العجز والدين؟ وكيف يمكن ترامب أن يحقق معدل نمو 4 في المئة، بحسب وعوده، أو 3 في المئة استناداً إلى وعود مساعديه بعد وصوله إلى البيت الابيض، مع استمرار ارتفاع العجز التجاري؟
قد يكون من حسن حظ الرئيس الأميركي، أن الناتج المحلي نما بنسبة 5.2 في المئة في الشهر الأول من هذا العام، بحسب بيانات «احتياطي أتالانتا» العضو في «الاحتياطي الفيديرالي»، وهي نسبة في حال صحت وحافظت على وتيرتها، فهي تظهر أن تمويل النمو الاقتصادي بالديْن على الطريقة الصينية، أمر ممكن أميركياً. وفي حال انتهجت أميركا هذا المسار، سيتقلّص النمو بينها وبين الصين إلى أدنى مستوياته، فنسبة نمو اقتصادي 6.5 في الصين لا تبعد كثيراً عن نسبة نمو 5.5 في المئة في الولايات المتحدة.
وكما سيشترك البلدان في نمو اقتصادي مرتفع، كذلك سيتشاركان في انفلات ديونهما الحكومية من عقالها، وهي خطوة لا تزال في طور التجربة. وليس واضحاً ماذا ستكون عواقبها، على رغم اهتزاز السوق المالية الأميركية، في ما بدا مثابة إنذار إلى أميركا ورئيسها وحكومتها، مفاده بأن الازدهار المتوقع ليس مؤكداً ولا ثابتاً، كما يحلو لهؤلاء المسؤولين التباهي.
حسين عبدالحسين
صحيفة الحياة اللندنية