كيف يمكننا أن نشكو في الغرب عندما لا نتعامل نحن مع المعارضة الإسلامية المسلحة للأسد (أنا لا أتحدث في هذه المرحلة عن “داعش”)، أو لا نحاول ترتيب وقف إطلاق النار الخاص بنا، حتى بمساعدة روسيا؟ فبعد كل شيء، كنا نحن الذين نقوم بتسليح هؤلاء الناس منذ سنوات.
* * *
فيما يلي بعض الحقائق القاسية حول حصار الغوطة. وقد أصبحت هذه الحقائق مدفونة تحت الأنقاض الحقيقية والدم والخداع والتعبيرات المتلكفة عن الروع والرعب التي تصدر عن الغرب. كان أول وأهم بُعد للحصار هو ملاحظة أدلى بها سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي قال يوم الاثنين الماضي إن موسكو والحكومة السورية “يمكن أن تطبقا (في الغوطة) تجربتنا في تحرير حلب”. هذه العبارة الوحيدة -التي تترجم بخلاف ذلك بالروسية بأنها “استخلاص الدروس من حلب” -تم اعتبارها، إذا انتبه إليها أحد من الأساس، تحذيراً من أن الغوطة سوف تتعرض للتدمير.
لكن الروس أمضوا أشهرا عدة، جنباً إلى جنب مع السوريين، في محاولة لترتيب أمر مغادرة المدنيين السوريين من شرق حلب قبل أن يتم الاستيلاء عليها؛ وبعد التقدم الكبير الذي أحرزته القوات السورية في ضواحي المدينة، كان هناك بالفعل خروج كبير للأبرياء؛ حيث سُمح للمعارضين المسلحين للنظام أيضاً بالمغادرة. وقام أفراد الشرطة العسكرية الروسية المسلحة وبالزي الرسمي بمرافقة الكثيرين من هؤلاء وأخذوهم إلى الحدود التركية. وفضل آخرون -في لحظة تهور بلا شك- أن ينتقلوا تحت المرافقة إلى إدلب، “أرض الإغراق” الكبيرة للمقاتلين الإسلاميين وأسرهم، والتي أصبحت الآن بشكل حتمي تحت الحصار.
الأمر الذي كان في ذهن لافروف عندما تحدث عن الحصار هو اتفاق مماثل مع الثوار المسلحين في الغوطة. ولدى كل من الروس والسوريين اتصال مباشر مع أولئك الذين يتحدثون عنهم على أنهم “إرهابيون” -وهي كلمة محبوبة لدى الغرب عندما يهاجمون جماعة النصرة الإسلامية (تنظيم القاعدة) نفسها التي يهاجمها الروس؛ وهذا هو السبب في أن القوات النظامية الروسية، عندما انتهى الحصار المفروض على المحافظة الأخيرة التي سيطر عليها المتمردون، حمص، في العام الماضي، وقفت إلى جانب الإسلاميين المسلحيين والمقنَّعين في كثير من الأحيان، الذين سُمِح لهم بالمغادرة إلى إدلب. وقد رأيت هذا بأم عيني.
“الثوار”/ “الإرهابيون”/ “الإسلاميون”/ “المعارضة المسلحة” -ولك أن تختار التعويذة التي تناسبك من هذه الأوصاف- هم بطبيعة الحال “الحقيقة” الأخرى الوحيدة لحمام الدم الجاري في الغوطة، والتي يبدو أنه لا يجب التعامل معها، ولا التحدث عنها، ولا الإشارة إليها -ولا حتى الاعتراف بها. وبالنسبة لمقاتلي جبهة النصرة في الغوطة -سواء كانوا قد مارسوا الضغط على المدنيين في الضواحي حتى يظلوا في المنطقة ويكونوا بمثابة “دروع بشرية” أم لا- فإنهم يشكلون جزءاً من حركة تنظيم القاعدة الأصلي الذي ارتكب جرائم ضد الإنسانية في الولايات المتحدة في العام 2001، والذي كان مستعداً -في مرات أكثر من العكس- للتعاون في سورية مع “داعش”، الطائفة الشرسة التي كانت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والناتو وروسيا (ولك أن تضيف هنا جميع المدافعين المعتادين الآخرين عن الحضارة) قد وعدت بتدميرها. وحلفاء النصرة هم “جيش الإسلام”، وهم جماعة إسلامية أخرى أيضاً.
هذه حالة شديدة الغرابة. لا ينبغي لأحد أن يشك في حجم الذبح الجاري في الغوطة. أو في معاناة المدنيين. لا يمكننا أن نضج بالسخط عندما يهاجم الإسرائيليون غزة (باستخدام موتيف “الدروع البشرية” نفسه الذي يستخدمه الروس اليوم) في حين نختلق الأعذار لحمام الدم الجاري في الغوطة لأن “الإرهابيين” الذين تحت الحصار هم إسلاميون من تنظيم القاعدة ملطخون بعلاقتهم بتنظيم “داعش”.
لكن هذه الجماعات المسلحة تغيب بطريقة مثيرة للتساؤل عندما نعرب عن غضبنا إزاء المجزرة الحاصلة في الغوطة. ليس هناك مراسلون غربيون يتواجدون لإجراء مقابلات معهم -لأننا (على الرغم من أننا لا نقول عادة ذلك) سنشهد رؤوسنا وهي تُقطَع بأيدي هؤلاء المدافعين عن الغوطة إذا حاولنا -أو حتى تجرأنا على دخول الضاحية المحاصرة. ولا تظهر اللقطات والصور التي نتلقاها -بشكل لا يصدق- حتى ولا مسلحاً واحداً هناك. وهذا لا يعني أن الأطفال الجرحى أو القتلى أو الجثث الدموية -وإن كانت وجوهها جُعلت “غير واضحة” على أيدي محرري التلفزيون الرصينين لدينا في الغرب- ليست حقيقية أو أن الأفلام مزيفة. لكن اللقطات بكل وضوح لا تظهر كل الحقيقة. لا تصور الكاميرات -أو محرروها السينمائيون- مقاتلي النصرة الموجودين في الغوطة. ولن تفعل.
الأفلام السابقة لأرشفة الحصار -حصار وارسو في العام 1944؛ حصار بيروت في العام 1982؛ حصار سراييفو في العام1992- كانت تظهر المقاتلين الفعليين الذين يدافعون عن هذه المدن، جنباً إلى جنب مع أسلحتهم. لكن اللقطات القادمة من الغوطة -مثل كل فيلم تقريباً جاء من شرق حلب في السابق- لا تحتوي حتى لو على إطار واحد يعترف بأن هؤلاء المسلحين موجودون. كما أنني لم أصادف ذِكراً واحداً لهم في تعليقاتنا على معاناة المدنيين، اللهم إلا إشارات عابرة إلى الغوطة في إعلام الولايات المتحدة ووسائل الإعلام الأوروبية على أنها “تحت سيطرة الثوار”. مَن هو الذي قتل إذن، بقذائف مدافع الهاون، الستة مدنيين -وجرح 28 آخرين- في وسط دمشق التي تسيطر عليها الحكومة قبل 24 ساعة؟ إنهم يشكلون نسبة ضئيلة مقارنة بالقتلى في الغوطة، بكل تأكيد. ولكن، هل ذهب هؤلاء إلى حتفهم على يد أشباح؟
هذا حذف مهم -لأن مفتاح أي نهاية لهذه المنطقة التي يُقتل فيها المدنيون وأحدث 250 قتيلاً فيها، يكمن في القدرة على فتح شكل من أشكال الاتصال المباشر بين المحاصرين المسلحين والمهاجمين المسلحين. وتشير تصريحات لافروف في اليومين الماضيين إلى أن الروس وافقوا على عودة إلى وضع الغوطة الذي كان قد سمي بشكل غريب “منع الاشتباك”، وهو وقف فعال لإطلاق النار والذي يمكن خلاله إرسال المساعدات إلى الغوطة وإخراج الجرحى منها. لكن النصرة انتهكت الاتفاق -هذا، بطبيعة الحال، وفقاً للافروف.
حسناً، ربما. ولكن، كيف يمكننا أن نشكو عندما لن نتعامل نحن مع المعارضة الإسلامية المسلحة للأسد (أنا لا أتحدث في هذه المرحلة عن “داعش”) أو نحاول ترتيب وقف إطلاق النار الخاص بنا، حتى بمساعدة روسيا؟ فبعد كل شيء، قمنا نحن بتسليح هؤلاء الناس لسنوات! ولكن لا، لن نتخذ أي إجراء من هذا القبيل. وهكذا، نكتفي فقط بفرك أيدينا بنفاق متزايد وتذلل مبالغ فيه.
روبرت فيسك
صحيفة الغد