سلط رد الفعل الإيراني الأخير على العملية العسكرية التركية ضد الأكراد في محافظة عفرين شمال غرب سوريا الضوء على حالة من التعقيد السياسي والأمني في الملف السوري. وعلى الرغم من أن الطرفين قد أظهرا حالة جيدة من العلاقات السياسية، خصوصاً في الملف الكردي في شمال العراق، أو على مستوى المحادثات السياسية في سوتشي، إلا أنه يمكن القول إن هناك إشكالية كبيرة تتعلق برؤيتهما لطبيعة الصراع المسلح في شمال سوريا.
ومن المثير للدهشة أن إيران تنظر إلى العمليات العسكرية الجارية حالياً في عفرين، على أنها مصدر تهديد على سياستها في العراق. وبمجرد عبور القوات التركية الحدود إلى عفرين، تم سحب عدد كبير من القطعات العسكرية التابعة للحشد الشعبي من داخل مدينة الموصل إلى أطرافها، وتم الدفع بها لتأمين الحدود العراقية السورية، ضد أية هجمات قد يقوم بها تنظيم “داعش”، ولسد الفراغ الذي تركته قوات سوريا الديمقراطية هناك، والتي قد تعيد الانتشار غربا باتجاه عفرين. كما أتاحت الحملة العسكرية التركية على عفرين للأحزاب السياسية العراقية بالعمل بحرية بعيداً عن ضغوطات الحشد الشعبي، خصوصاً وأن العراق مقبل على انتخابات برلمانية في أيار/ مايو 2018.
وفى سوريا، وعلى الرغم من أن إيران حققت بالفعل أبسط حاجاتها الأساسية وذلك بالحفاظ على بقاء نظام بشار الأسد حتى الآن، إلا أنها ترى أن هزيمة تنظيم “داعش،” والهجوم المتواصل من قبل قوات نظام الأسد في إدلب والغوطة الشرقية على ما تبقى من جيوب المعارضة، ضروريين، حيث أن إعادة تأهيل تنظيم “داعش” أو الفشل في إدلب أو في الغوطة الشرقية، من شأنه أن يعرض أمن نظام الأسد للخطر.
وفي الوقت نفسه، تعارض إيران أيضا الوجود التركي في عفرين باعتباره تهديدا طويل الأمد لمستقبل الأسد، خاصة إذا نجحت تركيا ووكلاؤها العرب المناهضون للنظام في فتح جبهة جديدة في حلب أو منبج، أو حتى على الضفة الشرقية من نهر الفرات. في هذه الحالة، على الرغم من أن تركيا في الوقت الراهن لا تزال متعثرة في عفرين، إلا أنها يمكن أن تشكل تهديدا للمعاقل الساحلية الشمالية للنظام، ويمكن أن تعيق حتى التقدم الإيراني الجامح نحو البحر الأبيض المتوسط.
وتتخوف إيران من أن قيام قوات سوريا الديمقراطية بسحب أغلب قواتها المتواجدة في مناطق شرق نهر الفرات، والدفع بهم إلى عفرين لدعم القوات الكردية هناك وهو ما قد يعرض المليشيات الأفغانية الشيعية المرابطة على الحدود العراقية السورية، وقوات الحشد الشعبي المتمركزة في مناطق جنوب سنجار وربيعة لهجمات تنظيم “داعش “، خصوصاً أن التقديرات تشير إلى تواجد ما يزيد عن 1500 عنصر تابع للتنظيم في هذه المناطق.
أيضا فانه في حالة سيطرة القوات التركية والجيش الحر على عفرين، فإن هذه العملية سوف تقطع “الطريق البري” الذي افتتحته إيران في اتجاه البحر الأبيض المتوسط. كما تخشى إيران من أن تؤدي السيطرة على عفرين، إلى قيام الجيش الحر بعمليات عسكرية جديدة لاستعادة مدينة حلب.
ولهذه الأسباب جميعا، حاولت إيران أن تضغط على روسيا لمنع تركيا من القيام بالعملية العسكرية، خصوصاً عندما ذهب نائب وزير الخارجية الإيراني إلى موسكو في الوقت الذي بدأت به العمليات العسكرية في عفرين، وقدم طلبا لروسيا لمحاولة إقناع تركيا بعدم المضي قدماً بالعملية. فالمشكلة بالنسبة لإيران هي أنها ليس لها أي تأثير على تركيا عندما يتعلق الأمر بعفرين، حيث لا يوجد جنود إيرانيون متمركزون في عفرين.
وبعيدا عن التصريحات الرسمية المشبوهة، وما يؤكد الخشية الإيرانية من العمليات العسكرية التركية أيضاً، ما أشار إليه “صادق ملكي” الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية الإيرانية، والذي قال بحسب مقال نشر له في أحد المراكز البحثية الإيرانية، من أن إيران هي الخاسر الوحيد في سوريا حالياً، وأضاف أن موضوع قيام الدولة الكردية في سوريا، يمثل خطراً لتركيا وإيران، ولكن ما هو الضامن من ألا تكون تركيا أكثر خطراً من الأكراد على المصالح الإيرانية، وبالتالي فإن على إيران أن تتخذ كافة الوسائل المناسبة لمواجهة تداعيات هذه العمليات العسكرية.
ويبدو أن إيران بدأت تخشى من إمكانية خروجها من الحسابات السياسية في سوريا خلال المرحلة القادمة. كما أن إن حاجة إيران إلى أن يبقى نظام الأسد على قيد الحياة، يعني أن إيران لا تزال تعتمد على الدعم الروسي لنظام الأسد، وبالتالي يجب أن تتماشى إيران مع قرار روسيا بعدم مقاومة تحرك تركيا في عفرين، وذلك على الرغم من عدم ارتياح طهران الكبير لهذا الوضع الجديد.
ومع ذلك، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تتفق عليه إيران وتركيا، هو عدم رضاهم عن السياسة الأمريكية العسكرية في سوريا. وحتى في ظل الاختلافات الاستراتيجية بينهما، ظلت أنقرة وطهران ثابتتين في انتقادها للولايات المتحدة، حيث ترى تركيا في استمرار دعم الولايات المتحدة لقوات سورية الديمقراطية، بمثابة دعم للانفصاليين الأكراد في الداخل. كما تنظر إيران إلى الوجود الأمريكي على الأرض في سوريا على أنه يشكل تهديدا خطيرا لمصالحها – ليس فقط في سوريا ولكن أيضا في المنطقة بأسرها.
وبالإضافة إلى التواجد الأمريكي على الأرض، تدرك إيران جيدا حجم التحديات الكبيرة التي تعيشها في سوريا والمتمثلة بـتنظيم “داعش” – الوجود الأمريكي- الجيش الحر- العمليات العسكرية التركية في عفرين – بوادر دور سعودي جديد- مضافاً إليها التحرك الإسرائيلي العملي مؤخراً ضد قوات ومنشآت تابعة لنظام الأسد. كلها أمور تخشى منها إيران كثيراً، وتشير بوضوح إلى أمكانية إقصائها من أية استحقاقات مستقبلية في سوريا، وبالتالي ستعمل بكل ما في وسعها لحفظ تواجدها السياسي والعسكري، فالصراع في سوريا بالنسبة لإيران هو صراع مصيري، والهزيمة فيه هي هزيمة تاريخية للمشروع الإيراني في المنطقة. وفي هذا الصدد، ستحتاج طهران إلى الموازنة بين معارضتها لمغامرة تركيا في عفرين مقابل أولويات أخرى أكثر إلحاحا تشمل السياسات الروسية والإسرائيلية والأمريكية في هذه الساحة المأساوية والمعقدة التي مزقتها الحرب.
فرانس الياس
معهد واشنطن