حصار الغوطة
تقع الغوطة الشرقية، كما يدل اسمها على ذلك، في شرق مدينة دمشق، وسُميت بهذا الاسم لأنها بساتين غنّاء من أشجار مثمرة تحيط بمدينة دمشق، وقد كانت تشكّل تاريخيًا جزءًا من حزامها الأخضر (إلى جانب الغوطة الغربية)، وسلّة غذائها الرئيسة، وتبلغ مساحتها نحو 110 كيلومترات مربعة، وتضم مجموعة من المدن والبلدات، أكبرها دوما التي تُعد عاصمة إدارية للمنطقة، وحرستا وغيرها من المدن والبلدات التي يصل عددها إلى عشرين مدينة أو بلدة. يشتغل معظم أهلها، وقد كان عددهم قبل الثورة أكثر من مليوني نسمة، في الزراعة. اشتهرت غوطة دمشق بمقاومتها الشديدة للاحتلال الفرنسي. وبالنظر إلى أنها غطاء أخضر متصل بالبادية، مثّلث ملجأً آمنًا للثوار على مر العصور. كانت غوطة دمشق من أوائل المناطق التي ثارت على النظام في آذار/ مارس 2011، بسبب الظلم الذي لحق بها من سياساته الزراعية، وتمليك الأراضي لمشاريع رجالات النظام، واتباع سياسة الاستيراد لبضائع تنتج فيها مثل الأثاث وغيرها. وقد سيطرت عليها المعارضة بداية من عام 2012، وهي تخضع، منذ ذلك الوقت، لحصار شديد من قوات النظام الذي حاول اقتحامها من محاور مختلفة أكثر من مرة خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل. يعيش في الغوطة اليوم، بحسب أكثر التقديرات، نحو 400 ألف نسمة، رفضوا الخروج من أراضيهم وبيوتهم، على الرغم من إجراءات الحصار التي أوصلتهم، في بعض الأوقات، إلى حافة الجوع.
أسباب التصعيد
كانت الغوطة الشرقية تمثّل إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع الرئيسة إلى جانب إدلب، ريف حمص الشمالي، ومنطقة جنوب سورية الغربي (درعا والقنيطرة) التي نشأت نتيجة اتفاق
روسي – تركي، فتَح الباب أمام ظهور مسار أستانة، بعد سقوط الجزء الشرقي من مدينة حلب بيد روسيا وحلفائها في كانون الأول/ ديسمبر 2016. وقد تم التوصل إلى تفاصيل شمول الغوطة بنظام الهدنة في اتفاق وقعته روسيا، بوساطة مصرية، في القاهرة، في تموز/ يوليو 2017، مع جيش الإسلام (أحد فصيلَي المعارضة الكبيرين اللذين يسيطران على الغوطة الشرقية)، ثم انضم إليه فيلق الرحمن في الشهر التالي. وقد وافقت روسيا على ترؤس أحد قياديي جيش الإسلام (محمد علوش) وفد المعارضة السورية في اجتماعات أستانة، على الرغم من معارضة إيران والنظام لهذه الخطوة.
كانت فكرة مناطق خفض التصعيد تهدف إلى الإعداد لمسار سياسي للحل؛ وفق الرؤية الروسية التي برزت بعض ملامحها خلال جولات أستانة الثماني التي عقدت على امتداد عام 2017، وتوجت بمؤتمر سوتشي في 29 كانون الثاني/ يناير 2018، وكانت روسيا تريده بديلًا من مسار جنيف الذي لم تساعد في إيصاله إلى أي نتيجة، على الرغم من اضطلاعها بدور رئيس فيه من خلال مشاركتها في إصدار قرار مجلس الأمن رقم 2254، والذي غدا مرجعيةً رئيسةً للحل في سورية. لكن سلسة من التطورات الأخيرة أدت إلى إفشال هذه الجهود، واتجاه روسيا إلى الموافقة على توجهات إيران والنظام، إلى التخلي عن فكرة مناطق خفض التصعيد، والذهاب في اتجاه الحسم العسكري، ابتداءً من الغوطة الشرقية (هذا إذا لم تكن مناطق خفض التصعيد تكتيكًا مؤقتًا أصلًا يهدف إلى الاستفراد بمناطق المعارضة المسلحة، والتخلص منها واحدة بعد الأخرى). فقد تعرّضت روسيا لسلسة من النكسات الميدانية والسياسية التي تنتقص من “النصر” الذي أراد الرئيس، فلاديمير بوتين، استثماره إلى الحد الأقصى في انتخابات الرئاسة التي تجري في 18 آذار/ مارس 2018.
فبعد مرور أيام قليلة على زيارةٍ قام بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإلقائه ما بدا كأنّه خطاب “النصر” أعلن فيه عن بدء خفْض القوات العسكرية الروسية في سورية، تعرّضت القاعدة نفسها لهجماتٍ صاروخيةٍ، أدت إلى إعطاب سبع طائرات كانت في أرض المطار، ثم تعرّضت القاعدة نفسها لهجمات منسقة، قامت بها طائرات من دون طيار (درونز)، عشية رأس السنة، لم تتمكن وسائط الدفاع الجوي عن القاعدة من رصدها، قبل أن يتم في مطلع
شباط/ فبراير 2018 إسقاط طائرة “سوخوي” روسية فوق إدلب بصاروخٍ يعتقد الروس أنه محمول على الكتف. وقد اتهمت موسكو الولايات المتحدة الأميركية بوجود دور لها في هذه الهجمات المنسقة للانتقاص من “الإنجاز” الروسي في سورية. ثم جاءت الضربة الأخيرة، عندما وجهت طائرات أميركية معزّزة بالمدفعية ضربة كبيرة إلى مليشيا مرتبطة بشركة أمنية روسية خاصة (كانت تعمل في أوكرانيا قبل أن تنقل مسرح عملياتها إلى سورية)؛ عندما حاولت مهاجمة مقار عسكرية تابعة لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، يوجد فيها جنود أميركيون قرب مدينة دير الزور شرق سورية. وقد أدى الهجوم الأميركي إلى مصرع عدد كبير من عناصر المرتزقة الروس، الأمر الذي تسبب بضجةٍ كبيرة في روسيا، وإحراج شديد لنظام الرئيس بوتين الذي حاول، أول الأمر، تجاهل الحادثة كليًا، قبل أن تضطر وزارة الخارجية الروسية إلى الاعتراف، فقط، بمصرع خمسة مواطنين روس في العملية، قالت إنهم غير مرتبطين بالقوات الروسية العاملة في سورية.
من جهة ثانية، جاء الإعلان عن استراتيجية أميركية جديدة في سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، واستعادة أكثر الأراضي التي يسيطر عليها، بمنزلة ضربة كبيرة لجهود روسيا من أجل الاستئثار بقيادة الحل في سورية. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 2018، أعلن وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، في خطاب مخصص للسياسة الأميركية في سورية، أن الولايات المتحدة قرّرت عدم تكرار خطئها في العراق، عندما انسحبت منه بعد القضاء على تنظيم القاعدة، وتركته للنفوذ الإيراني، وأن الولايات المتحدة قرّرت، من ثمّ، الاحتفاظ بوجود عسكري لها شرق سورية، بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية. وحدد تيلرسون خمسة أهداف رئيسة، تسعى واشنطن إلى تحقيقها، من خلال الاحتفاظ بهذا الوجود، هي:
1. عدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية، أو القاعدة، بالانبعاث مجددًا، وعدم السماح بأن تعود سورية لتصبح قاعدة أو منطلقًا للتخطيط أو تجنيد أو تمويل أو شن هجمات ضد الولايات المتحدة، أو ضد مصالحها أو حلفائها.
2. إيجاد حل للصراع في سورية، من خلال عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة، وفق نص القرار 2254، للوصول إلى دولة سورية مستقرة وموحدة ومستقلة، تحت قيادة جديدة لا يكون الأسد جزءًا منها.
3. تحجيم النفوذ الإيراني، ومنع إيران من إنشاء قوس نفوذ لها في المنطقة، ومنع تحول سورية إلى قاعدة لتهديد استقرار المنطقة والدول المجاورة.
4. توفير الظروف التي تسمح بعودة اللاجئين والنازحين داخل سورية إلى بيوتهم وبلداتهم.
5. إخلاء سورية من كل أسلحة الدمار الشامل.
اعتبرت روسيا الاستراتيجية الأميركية الجديدة عملًا عدائيًا يستهدف جهودها ومصالحها في سورية؛ إذ رفضت الولايات المتحدة حضور مؤتمر سوتشي، حتى بصفة مراقب، ومارست ضغوطًا على الهيئة العليا للمفاوضات المعارضة لمقاطعة المؤتمر، وأنشأت الولايات المتحدة لجنة خماسية تضمها، إلى جانب بريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، لمواجهة ترتيبات روسيا مع تركيا وإيران في سورية، وقدمت للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، ورقة تتضمن رؤية اللجنة الخماسية للحل في سورية، في مواجهة مقررات مؤتمر سوتشي.
من أجل كل هذه الأسباب، قرّرت روسيا التي رأت أن استراتيجيتها السياسية والعسكرية في سورية تتداعى، مع تدهور علاقتها بالولايات المتحدة إلى مستوىً غير مسبوق، أن تنحو في اتجاه حل عسكري في الغوطة الشرقية، في خطوةٍ يكون الهدف منها هزيمة المعارضة كليًا ودفعها إلى الاستسلام، بدلًا من التفاهم معها على حل؛ مثلما كانت الفكرة، عندما انطلق مسار أستانة. ولهذه الأسباب بدأ التصعيد في الغوطة.
القرار 2401
بعد مفاوضات طويلة، وتعطيلٍ، ومحاولات كسب الوقت، على الرغم من الضغوط السياسية والإعلامية التي تصاعدت مع انتشار آثار الدمار والموت؛ بسبب القصف الروسي لمناطق
المدنيين في الغوطة، وافقت روسيا على مسودة مشروع قرارٍ مشترك، تقدمت به السويد مع الكويت التي كانت ترأس دورة مجلس الأمن، خلال شباط/ فبراير 2017، لإطلاق هدنة إنسانية في سورية، مدتها ثلاثون يومًا، وفتح ممرات لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة. صدر القرار رقم 2401 في وقت متأخر من يوم الجمعة 23 شباط/ فبراير 2017، لكن روسيا لم توافق عليه إلا بعد تعديلات جوهرية؛ إذ حذفت منه فقرةً توجب بدء الهدنة خلال 72 ساعة من تبني القرار، وأصبحت، بدلًا من ذلك، “من دون تأخير”. ومن بين التعديلات، أيضًا، أن تشمل الهدنة سورية كلّها، بدلًا من الغوطة فقط، وأن تستثنى منها الجماعات المتشددة التي يصنفها مجلس الأمن إرهابية (أي تنظيم داعش وجبهة النصرة)، على الرغم من أنه لا وجود لداعش في الغوطة الشرقية، أما جبهة النصرة فأعربت الفصائل المقاتلة عن استعداد هذه الجبهة إخراج قواتها المحدودة من الغوطة، لكن روسيا وحلفاءها طالما استخدموا هذه الحجة للاستمرار في القصف وإخضاع المعارضة.
من جهة ثانية، حاولت روسيا الالتفاف على نص القرار الذي يسمح بتوفير معابر إنسانية لإدخال المساعدات، واقترحت، بدلًا من ذلك، هدنة يومية مدتها خمس ساعات تبدأ في التاسعة صباحًا وتنتهي في الثانية بعد الظهر، للسماح للمدنيين بالخروج من المنطقة؛ في محاولة واضحة لتهجير سكان المنطقة تحت القصف الذي يبدأ في الدقيقة الأولى بعد انتهاء مهلة الخروج، ويستمرّ 19 ساعة يوميًا.
مقومات الصمود
مستفيدةً من تجربة شرق حلب، وسحبًا للذرائع، اقترحت فصائل المعارضة داخل الغوطة،
إخراج عناصر جبهة النصرة الذين تتخذهم روسيا ذريعةً لاستمرار القصف، مع أنّ عددهم لا يتجاوز 250 شخصًا مع عائلاتهم (بين 400 ألف نسمة). وعلى الرغم من أن روسيا رحبت بالمقترح، فإنها عرقلت تنفيذه حتى الآن؛ إذ تسعى عمليًا إلى القضاء على آخر جيوب المعارضة المهمة الموجودة حول دمشق، وكانت قد تمكنت، خلال العامين الأخيرين، نتيجةً للقوة الغاشمة والحصار وكثافة القصف الذي مارسته على المدنيين، من إخراج فصائل المعارضة، وتهجير السكان من أكثر مناطق الغوطة الغربية؛ من أقربها إلى دمشق (داريا والمعضمية وقدسيا ووادي بردى) إلى أبعدها عنها (الزبداني ومضايا.. إلخ). وقد عبرت روسيا، صراحةً، على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، عن أنه من الممكن التوصل إلى اتفاقٍ لخروج فصائل المعارضة السورية من الغوطة الشرقية؛ على غرار الاتفاق الذي جرى في حلب عام 2016 وسمح للمقاتلين بالخروج نحو إدلب.
لكن تحقيق الأهداف الروسية ربما لا يكون بالسهولة نفسها التي تحققت في حلب، قبل أكثر من عام؛ ويعود ذلك إلى أن إمكانات الصمود في الغوطة الشرقية أفضل منها في حلب، على الرغم من أن المنطقة تعيش تحت حصار كامل منذ خمس سنوات. فمعظم (إن لم يكن جميع) مقاتلي المعارضة، من أهالي المنطقة؛ ومن ثمّ فإنهم يعرفون جغرافيتها جيدًا، ولن يكون من السهل على أي قوة عسكرية مهاجمة أن تتقدم. ومن أبرز الأدلة على ذلك أن النظام لم يتمكّن بعد خمس سنوات من القتال الضاري أن يتقدم، ولو مسافة قليلة في حي جوبر، على أطراف مدنية دمشق، والذي يُعد خط الدفاع الأول عن الغوطة، ثمّ إنّ مقاتلي المعارضة كثيرو العدد؛ فوفق أدنى إحصاء لهم، يصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل، مجهزين بأسلحة ثقيلة غنموها من معسكرات النظام خلال سنوات القتال السابقة، كما أنّ هؤلاء المقاتلين يملكون مخزونًا كبيرًا من الذخيرة يكفي المقاومةَ فترةً زمنية طويلة. وفضلًا عن هذا، يتمتع المقاتلون بخبراتٍ قتالية كبيرة، ولديهم كل الأسباب للبقاء والمقاومة؛ فهم يدافعون عن أرضهم وأهلهم، والخيارات التي أمامهم، إنْ قرروا القبول بالخروج، ليست مشجعة، خصوصا أنّ من سبقوهم من فصائل المعارضة وأهاليهم يتعرّضون اليوم للمستوى نفسه من القصف في إدلب. زيادةً على ذلك، تمكن أهالي المنطقة، خلال سنوات من الحصار والقصف، من بناء شبكة كبيرة من الأنفاق، حتى إنه يمكن القول إن بلدات بكاملها تعيش تحت الأرض، كما أن طبيعة المنطقة الزراعية، وخبرة أهلها في هذا المجال، أمران يسمحان لهم بالصمود، ذلك أنّ المنطقة قادرةٌ على تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. وما يمكن أن يمثل فرقًا حقيقيًا هنا، هو، وحدة الفصائل في التعامل مع الهجمة العنيفة التي تواجهها الغوطة، وتجنب ما كان من تناحر واقتتال، لم يعد لهما من مبرّر مقبول للاستمرار في مثل هذه الظروف.