في حالة توافق سني سيعي يكاد يكون نادر صوت مجلس النواب العراقي اليوم السبت الفائت على الموازنة الدولة العراقية لعام 2018، منهيا بذلك أشهرا من التأخير بسبب الجدل المحتدم بشأنها بين الحكومة العراقية في بغداد، وحكومة إقليم كردستان في أربيل فيما يتعلق بحصة الأخيرة من الموازنة. وقد قاطعت الكتلة الكردية جلسة التصويت بسبب رفضها النسبة المخصصة لإقليم كردستان العراق والبالغة 12% من الموازنة، مطالبة بزيادة النسبة إلى 17% كما كان عليه الحال الأعوام الماضية.
وفي أول ردة فعل للكرد- وبعد إقرار الموازنة-، دعا النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني سيروان سيريني، رئيس الجمهورية فؤاد معصوم والقيادات السياسية في إقليم كردستان إلى مقاطعة الانتخابات المقبلة والعملية السياسية. وقال سيريني في بيان له إن “ما يجري في البرلمان العراقي مؤخرا هو إصرار على تهميش الأكراد وعزلهم عن القرار السياسي ودفعهم إلى اللجوء لخيارات أخرى مفتوحة الأبعاد للوقوف والرد على هذه الأعمال المخالفة للدستور والشراكة الوطنية والاتفاقات المتعارف عليها منذ العقد الأخير في حصة الإقليم في الموازنة”.وأضاف: “لا يمكننا السكوت والبقاء كمتفرجين على المهزلة التي تجري في قبة البرلمان بحق الأكراد والاستمرار بسياسة الشوفينية والنعرة القومية وخصوصا في آذار/ مارس شهر الانتفاضات الكردية والشهداء الأكراد”.و حمل النائب “الرئاسات الثلاث والجهات السياسية التي شاركت بالتصويت على تخفيض حصة الإقليم تتحمل مسؤولية هذا العمل الخطير الذي سيقضي على التفاهمات والتحالفات السابقة معه في تشكيل الحكومات السابقة”. واقترح سيريني “عقد مؤتمر دولي في إقليم كردستان تحت رعاية الأمم المتحدة وأمريكا والمجتمع الدولي لإيجاد نموذج آخر للحكم في العراق”، محملا المجتمع الدولي والأمم المتحدة “المسؤولية عما سيجري مستقبلا في حال قرر الأكراد مقاطعة العملية السياسية”.
وعلى الصعيد ذاته، قال النائب أحمد الحاج رشيد إن “المقاطعة السياسية هي إحدى الأوراق المحروقة في هذا الوقت، بالتالي اللجوء إلى هذا الخيار لا يصب إلا في خانة أعداء العراق وزعزعة استقرار البلد، لأن الحالة العراقية تحتاج إلى الاستقرار ونحن جزء من شعب العراق”. ودعا النائب عن الجماعة الإسلامية الكردستانية في حديث إلى “مناقشة الأمر وتدارسه بين الكتل السياسية العراقية”، لافتا إلى أن “مشروع الموازنة ليس نهاية الدنيا، وكل ما هناك أن إجحافا قد حصل في حق المكون الكردي، ولم تدرج جميع مطالبه في الموازنة”.وأضاف أن “هناك مجموعة من المطالب الكردية قد أدرجت ضمن الموازنة العامة، وبالتالي لا يوجد بديل عن الحوار إلا الحوار، للوصول إلى تلبية مطالب الأكراد والعراقيين جميعا”.وحول وجود تطمينات من الحكومة العراقية، قال النائب إن “مسألة التطمينات لا تحتاج وعدا من العبادي، فهناك محاكم ومؤسسة تشريعية خير ضامن لحقوق الأكراد وبقية المكونات العراقية”. ومن جانبها اتهمت عضو مجلس النواب العراقي عن “الحزب الديمقراطي الكردستاني” نجيبة نجيب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بارتكاب مخالفات دستورية وقانونية فيما يتعلق بالموازنة وقضايا أخرى، موضحة خلال مؤتمر صحافي عقد في بغداد أن العبادي أصبح رئيسا للوزراء عام 2014 بناء على وثيقة سياسية صادق عليها الأكراد وقوى أخرى. في حين أكدت النائبة الكردية المعارضة سروة عبد الواحد، أن «إقرار الموازنة من دون موافقة الكرد سابقة خطيرة، وهي بمثابة الخطوة الأولى لإنهاء الشراكة». وأضافت: إن «من الصعوبة التعامل مع هذا الوضع بين بغداد والكرد ما لم يتم إصلاح البيت الكردي أولاً، والقضاء على الفساد في الإقليم». واستبعدت «يقوم الكرد بمقاطعة بغداد؛ لأن هذه الخطوة لن تكون حكيمة، بل الأصح هو المزيد من الحوارات».
وفي هذا السياق أيضًا دعا بارزاني في بيان القوى السياسية الكردية إلى موقف موحد رداً على خفض نسبة حصة إقليم كردستان . قائلًا: «ما حصل باسم إقرار الموازنة خرق واضح لمبادئ الشراكة والتوافق والتوازن ومبادئ الدستور، واضطهاد مخطط له ضد شعب كردستان». وأضاف: «آمل بأن تظهر الخطوة الأخيرة الكثير من الحقائق للداخل والخارج، وأن يكونوا على علم بأننا طرف مع أي عقلية وثقافة، وآن الأوان أن تجتمع الأطراف الكردستانية لاتخاذ قرار مشترك رداً على خطوة مجلس النواب». واعتبر «الحصة المحددة لإقليم كردستان ضمن الموازنة الاتحادية ضئيلة جداً، ولا تؤمن رواتب موظفي كردستان»، مضيفاً: «ملتزمون الشراكة، لكن إقرار الموازنة يظهر عدم التزام بغداد بها، وعدم الاكتراث بمصالح شعب كردستان». ولا تشير صورة الصراعات الكردية الداخلية إلى إمكان جمع القوى المختلفة على موقف واحد، خصوصاً أن الأطراف كافة بدأت بالتحضير الفعلي للانتخابات العامة المقررة في 12 أيار (مايو) المقبل، كما أن بعض القوى الحديثة، مثل «الجيل الجديد» و «تحالف العدالة»، يأمل بأن يسحب المقاعد التي استحوذت عليها الأحزاب الرئيسة. كما يستبعد مراقبون أن يقاطع حزب بارزاني الانتخابات منفرداً، مع ضعف شريكه الرئيس «الاتحاد الوطني»، ومنافسة قوى صغيرة ناشئة.
يرى مراقبون ومتابعين للشأن العراقي إن الساسة الأكراد سيلجأون إلى أحد ثلاثة خيارات، للتعامل مع واقع الحال الذي صنعه تحالف شيعي سني بشأن الموازنة. ويتمثل الخيار الأول في الانسحاب “المؤقت” من العملية السياسية، بانتظار وساطات دولية وضغوط خارجية لإجبار بغداد على تعديل حصة كردستان.وتعتقد القيادة السياسية الكردية أن الجماعة الدولية لن تقف متفرجة على بغداد وهي “تعاقب كردستان، جراء استفتاء الانفصال في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي”. ولكنّ في المقابل يرى مراقبين إن هذا الخيار يذكر الأكراد بتجربتهم في الاستفتاء، حيث عولوا على الدعم الدولي كثيرا، لكن التدخل كان عكس طموحهم تماما، بل وأسهم في تعزيز موقف بغداد ضدهم. أما الخيار الكردي الثاني فيتمثل في اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا للطعن في الموازنة. ويمكن للمحكمة، عمليا، أن تدعم ادعاءات الأكراد بشأن الإجحاف بحقوقهم لو وجدت مدعاة قانونية، ما يلزم الحكومة بتعديل الموازنة. ومع ذلك، فإن هذا الخيار غير مضمون، نظرا للشعور الكردي بأن المحكمة الاتحادية المسؤولة عن حسم النزاعات الدستورية ستميل نحو بغداد على حسابهم، كما أن لجوءهم إليها، يعني اعترافا كرديا ضمنيا بسلطاتها، وهو ما لا تريده أربيل. بينما الخيار الثالث والأخير، فهو قبول نسبة 12.6 بالمئة التي حددتها الموازنة للإقليم، لكن ذلك سيمثل إذعانا كرديا لبغداد، ويكرس فكرة الغالب والمغلوب في ذهنية الناخب الكردي، وهو ما تخشى الأحزاب الكردية أن تعاقب عليه خلال انتخابات آيار/ مايو المقبل. لا سيما أن الإقليم يعاني من أزمة سياسية داخلية وإقتصادية عقب إجراء استفتاء الانفصال في 25 أيلول/سبتمبر الماضي.
وبتمرير الموازنة يوشك الكرد على فقدان آخر خياراتهم وأخطرها. فالكرد كانوا طوال السنوات الأربع عشرة الماضية بيضة القبان على صعيد كل مخرجات العملية السياسية، بينما كان تحالفهم الموحد حتى قبل أقل من سنتين في مجلس النواب العراقي «صانع الملوك»، كما لا يمر قانون أو تشريع دون أن تكون للكرد بصمة فيه. كما بدأ التحالف الكردي – الشيعي التاريخي، مثلما كان يوصف، يترنح منذ أربع سنوات رغم محاولات «ترقيعه» من قبل هذا الطرف أو ذاك حتى أطاح استفتاء كردستان في الخامس والعشرين من سبتمبر (أيلول) العام الماضي بنصفه، بينما أكمل دخول القوات العراقية كركوك والسيطرة على المناطق المتنازع عليها في السادس عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه نصفه الثاني. ثم تعدى الأمر على صعيد الصلة بين الطرفين (بغداد وأربيل) ليصل إلى المطارات والمنافذ الحدودية. بينما يبدو واضحاً بالنسبة لكل المراقبين والمتابعين للشأن السياسي العراقي أن بغداد تمكنت من اللعب على التناقضات الكردية التي مثلها جبهتان عريضتان، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني الذي يهيمن على أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس الراحل جلال طالباني وحركة التغيير. خلاصة القول أن الموازنة التي تمكن مجلس النواب العراقي من تمريرها أعاد فتح ملف العلاقة بين الكرد والعرب، وبين بغداد وأربيل، وبين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية