في بواكير كانون الثاني (يناير)، شهدت تونس وإيران فترات متشابهة بشكل ملحوظ من الاضطرابات والاحتجاجات التلقائية واسعة النطاق. وفي كل من الحالتين، فشلت التظاهرات في النهوض إلى مستويات ثورية، لكن الاحتجاجات استمرت لأيام، وتم احتواء أسوأ العنف فقط بعد مئات من الاعتقالات. وما تزال الاحتجاجات متواصلة على مستوى منخفض في كلا البلدين حتى هذا اليوم.
على الرغم من أن حجم الاضطرابات الأولية في إيران هو الذي استحوذ على كثير من اهتمام العالم، سوف يكون صناع السياسات والمستثمرون حكيمين إذا هم فكروا في كلا الحدَثَين معاً. وسوف يُظهر ذلك أن الاحتجاجات في كل من البلدين كانت مدفوعة بمواطن الشكوى نفسها التي قدحت شرارة الربيع العربي، مما يترك القليل من الشك في أن المنطقة ما تزال عرضة لمزيد من التصدعات المفاجئة. وفي الحقيقة، من المرجح أن يكون العديد من القادة في الشرق الأوسط متوترين في ردة فعلهم على حملة المتظاهرين التونسيين الشعبية التي رفعت شعار: “ماذا ننتظر؟”.
الطريق إلى الاضطرابات
سلك اندلاع الاضطرابات مساراً مألوفاً في كلا البلدين. فبعد أشهر من النقاش المفتوح حول الاقتصادات المترهلة، اندلعت الاحتجاجات في مدن عبر تونس وإيران. واشتكت حشود المتظاهرين الذين تحركوا بلا قيادة من موازنات التقشف، والفساد، وتضخم أسعار السلع الغذائية الأساسية وارتفاع معدلات البطالة. وعلى الرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى أن هناك القليل مما هو مشترك بين الديمقراطية الليبرالية الوحيدة في المنطقة والاستبدادية الثيوقراطية الوحيدة فيها، فإن خلفياتهما السياسية والاقتصادية تتقاسم فعلاً بعض الخصائص المشتركة.
يقود كل من البلدين زعيم مُسنّ عليه أن يتساءل عما إذا كان الإصلاح سيكشف عن بنية سياسية تزداد هشاشة باطراد. وقد وصل عمر المرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، إلى 78 عاماً، ويقال إنه في حالة صحية سيئة. وبعمر 91 عاماً، يكون الرئيس التونسي باجي قائد السبسي ثاني أكبر زعيم في أي بلد في العالم.
وجاء مرؤوساهما المباشران، رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد والرئيس الإيراني حسن روحاني، إلى سدة السلطة بعد أن أقنعا الناخبين بأنهما يستطيعان إصلاح الاقتصادات المبتلاة بسوء الإدارة، وتحسين آفاق التنمية للفقراء. وقد فشلا في القيام بذلك. وتبلغ معدلات البطالة بالأرقام الرسمية 12.6 في المائة في إيران، و15.2 في المائة في تونس، ويشعر مؤيدوهما بخيبة أمل متزايدة ويتخلصون من الأوهام باطراد.
على الرغم من أن الفقر الفعلي انخفض في كلا البلدين، يبدو أن الفقراء يزدادون فقراً على أي حال. ووفقاً لمحطة “بي. بي. سي” الفارسية، فقد أصبح الفقراء في المتوسط أكثر فقراً بنسبة 15 في المائة من حيث الأوضاع الحقيقية على مدى العقد الماضي، الذي كان نصفه تقريباً في فترة حكم الرئيس حسن روحاني.
اندلعت الاحتجاجات التونسية، في جزء منها، بسبب خطط الحكومة لزيادة أسعار المكالمات الهاتفية، والشاي، وغاز الطبخ والقهوة. وتضم إيران وتونس أعداداً كبيرة من الشباب الذين يعانون من البطالة المنتشرة بشكل خاص بين سكان كلا البلدين من خريجي الجامعات.
هذا الجيل المتصل بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي، يصبح أكثر جرأة في التعبير عن السخط الذي يبدو أنه بلغ حداً يتاخم اليأس. وأدى توسع استخدام الهواتف النقالة في المنطقة إلى تسريع الاتصال بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين كان 16.2 في المائة فقط من الإيرانيين يمتلكون هواتف ذكية في العام 2011، فقد ارتفع ذلك العدد بشكل مطرد منذ ذلك الحين لتصل النسبة إلى 41.3 في المائة في العام 2016. ويمتلك أكثر من 65 في المائة من التونسيين هواتف نقالة.
وأخيراً، أصبحت كل من تونس وإيران اقتصادات احتجاجات، والتي تنظر إليها شبكاتهما الاجتماعية المتصاعدة بوصفها عاجزة عن توفير أنواع الحماية التي يسعى إليها المواطنون. ونتيجة لذلك، يشهد هذان البلدان (ومن المتوقع أن يستمرا في اختبار) المئات من الاحتجاجات الاقتصادية والإضرابات والتظاهرات في كل عام، والتي يقوم بها العمال الذين لم يتلقوا أجورهم والمواطنون الساخطون.
ما الذي سيحدث تالياً؟
على الرغم من أن قلة من المتشددين في إيران أطلقوا تهديدات قاتمة ضد المتظاهرين وادعاءات بغيضة بوجود تدخل خارجي، فإن الأيام التي يستطيع فيها رئيس إيراني أن يشير إلى المتظاهرين على أنهم “تراب وغبار” قد ولت. وبدلاً من ذلك، تحدث القادة السياسيون الإيرانيون والمعارضون على كل من جانبي اليسار واليمين علناً عن تعاطفهم مع مطالب المتظاهرين. ومع ذلك، يبقى الأمل في تحقيق قدر أكبر من الإصلاح غير مبرر. فما يزال الوسطيون التونسيون غير منظمين، والقليلون يصدقون زعم رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد بأن 2018 سيكون آخر عام صعب لتونس ما بعد الثورة.
وفي إيران، يبدو أن جهود الرئيس روحاني المتواضعة ضد الحرس الثوري المتخندق في بلده تفعل القليل وراء مجرد إثارة غضب منافسيه، وقد استخدم محافظو إيران المتشددون والبراغماتيون الاضطرابات الأخيرة لمهاجمة سياسات خصومهم.
في الحقيقة، من غير المرجح أن تكون أي من الحكومتين قادرة على حل مشاكلها الاقتصادية العميقة في المدى القريب. وقد أثبتت كل منهما عدم قدرتها على تقليص قطاعها العام المتضخم أو تخفيض ديونها، ومن المرجح أن تتسبب الإصلاحات القاسية بالمزيد من التسخين السياسي وربما المزيد من الاضطرابات.
في السنوات السبع التي انقضت منذ تنحي بن علي، كانت نجاحات تونس الاقتصادية قليلة بوضوح. وقد جلبت سياسات شد الحزام المالية التي انتهجها الشاهد له دعم صندوق النقد الدولي، لكنها أثارت احتجاجات قوية من قادة العمال التونسيين. ودفعه ذلك إلى التراجع عن الإصلاحات قبل عام، لكن التأخير فعل القليل لجعل الإصلاحات المقترحة أكثر قبولاً، كما كشفت الأحداث الأخيرة.
شكلت الزيادات الأخيرة في أسعار النفط استنزافاً في غير أوانه للعملة الصعبة الثمينة في تونس، بينما يعتمد البلد المنتج للنفط سابقاً على مستوردات النفط، وسوف يفعل الإدراج في قوائم الاتحاد الأوروبي السوداء للملاذات الضريبية القليل لزيادة ثقة المستثمرين التي تسعى إليها حكومة الشاهد.
وفي طهران، فشل روحاني وتكنوقراطيوه في رفع مستويات المعيشة، على الرغم من أكثر من أربع سنوات من الوعود وصمود الاتفاق النووي الذي وعد الإيرانيين باقتصاد أفضل من خلال تخفيف العقوبات.
وإذن، ما الذي يجب عمله؟
يجب أن يرى العالم هذين المثالين على الاضطراب بما هما عليه: كدليل على أن الظروف التي أنجبت الفوضى والعنف في الربيع العربي أصبحت تنتشر كالفقاعات عبر كامل أنحاء المنطقة. وتتطلب المشلكة التوأم المكونة من بطالة الشباب والفجوة المتنامية بين “الذين يملكون” و”الذين لا يملكون” انتباهاً عاجلاً.
لسوء الحظ، سوف يسمح الانهيار الوشيك لتنظيم “داعش” (بل إنه يتطلب في الحقيقة) تحويلاً للاهتمام والموارد إلى المنطقة للحيلولة دون تمكن المتشددين الهاربين من سورية والعراق من تأسيس قواعد جديدة لهم في أفريقيا. وتُعرف تونس -على الرغم من الجهود القصوى التي تبذلها الحكومة- بأنها أكبر مصدر للمقاتلين الأجانب في سورية والعراق، ويجب القلق مما سيحدث عندما يعود هؤلاء المتشددون المخضرمون إلى الوطن. وسوف تكون الموارد اللازمة لمكافحة الإرهاب دائماً موضع ترحيب، لكن المنطقة في حاجة ماسة إلى حلول جديدة لمشاكلها الاقتصادية التي لا تنتهي، أو أن أولئك الذين ملؤوا مؤخراً شوارع تونس وميادين المعارك في سورية والعراق لن يروا بديلاً عن الاحتجاج والعنف.
بذلك، سوف يشك القليلون في أن الدعم الأوروبي والأميركي لتونس يجب أن يستمر، ولو مع تدقيق سوف يجده بعض الساسة التونسيين غير مرحب به. وبشكل خاص، يجب على واشنطن التراجع عن خفض الدعم، ولو أن المزيد من المساعدة يجب أن يؤطر بحيث يضمن تبني تونس التدريجي للإصلاحات الهيكلية وإجراءات مكافحة الفساد التي يتطلبها اقتصادها.
لكن إيران تتطلب طريقاً مختلفاً. ففي حين يبقى الاتفاق النووي إنجازاً مهماً يجب أن لا نستخف به، فإنه لا ينبغي أن يقيد الأيدي عن الرد على سلوك إيران الذي ينزع استقرار المنطقة، ويجب أن يعرف قادة إيران أن قراراتهم تنطوي على كلفة. ولهذا السبب، يجب أن لا يُسمح لإيران بالاعتماد على الاستثمار الأجنبي التي تحتاجه بشدة إلى أن تعمل قيادتها على كبح جماح قوة القدس الاستكشافية، وسوف تكون الشركات الأجنبية حكيمة إذا هي فكرت فيما إذا كانت تريد أن تغامر بالاستثمارات في بلد سيواجه ضغطاً دولياً متزايداً.
وأخيراً، يجب العثور على الحلول لمشاكل الشرق الأوسط في داخل المنطقة نفسها، ولدينا هنا سبب للأمل. فقد اجتذب نطاق الإصلاحات التي تجريها السعودية وطموحها وتطورها اهتمام الغرب. ولكن، حتى أشد منتقدي الرياض يشتكون من التسرع والتكتيكات المتصلة بهذه المبادرة أكثر مما يشتكون من أهدافها.
من المؤكد أن تنفيذ العديد من هذه المشاريع سيستغرق سنوات طويلة، ويبقى أن نرى ما إذا كان القادة السعوديون سيتمكنون من تنفيذ الكثير من المشاريع الصعبة والتحويلية. ويجب على المجتمع الدولي أن يدرس أفضل الطرق التي يستطيع بها تسريع وضمان هذا النجاح، وليس بسبب الفرص الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي يعرضها فحسب، وإنما لأن تداعيات الفشل ستكون كبيرة.
من الصعب النظر إلى عدد سكان مصر المتزايد باستمرار (يولد مليونا مصري إضافي سنوياً) من دون التساؤل عن الكيفية التي سينجو بها هذا البلد الفقير بالموارد في السنوات المقبلة. ولهذا السبب، يجب أن تحظى الجهود السعودية والإماراتية لإقامة منطقة اقتصادية جديدة في البحر الأحمر بأوثق اهتمامنا، بينما نبذل كل ما في وسعنا لدعم خطط المملكة العربية السعودية لترويج شكل أكثر تسامحاً من الإسلام.
في غياب الوفاء بالمطالب الأصلية للربيع العربي -الخبز، الكرامة، الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية- فإن اندلاع الموجة المقبلة من الاحتجاجات سيكون مسألة وقت فقط، ومن المرجح أن يكون ذلك هو الإشارات الأولى التي يسعى إليها الجهاديون العائدون لترسيخ أنفسهم في تونس والدول الضعيفة الأخرى في المنطقة. وتبيِّن تفجيرات يوم 9 كانون الثاني (يناير) في كنيس تونسي طبيعة ما قد يكون كامناً على الطريق.
لا تعرض إيران أي علامات على تقليص نزعتها المغامراتية، وهو ما سيؤدي فقط إلى تأجيج الاقتتال الطائفي الداخلي وتهديد وكلاء طهران للجيران. وبالمثل، وحتى يظهر دليل على أن برامج الصواريخ الإيرانية ومغامراتها الخارجية تنحسر، يجب علينا أن نتجنب أي توانٍ في الضغط المالي على طهران.
سوف يتطلب تحقيق النجاح تنسيقاً وثيقاً مع شركائنا الأوروبيين والخليجيين لضمان فهمنا لوجهات نظرهم واستغلال قدراتهم الفريدة من دون أن نضيع في متاهات النقاشات الدبلوماسية التي لا نهاية لها. وسوف يتيح لنا ذلك إمكانية الحيلولة دون حدوث المزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمية بينما نضع شروطنا التي ستجعل إيران لاعباً إقليمياً أكثر مسؤولية.
نورمان ت. راولي
صحيفة الغد