الموصل – رويترز: وقف عبد الستار حبو فوق تل من الركام يتفحص ما بقي من مكتبه الذي كان في الطابق الثاني فلم يجد سوى قضبان معدنية ملتوية وأحجار عمرها قرون حولتها غارة جوية إلى تراب.
قال وقد ارتسمت علامات الحزن على وجهه وهو يتذكر كيف دمرت المعركة التي استمرت تسعة أشهر لهزيمة مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» في الموصل العام الماضي عشرات الآلاف من المباني «أتذكر أنني كنت أتطلع إلى النهر من شباكي. تطلعوا الآن كيف صارت».
وحبو هو مدير بلدية الموصل. وأمامه مهمة مهولة لإعادة بناء ثاني أكبر مدن العراق بعد ما لحق بها من دمار في الحرب. وهذا مشروع عملاق قد يستغرق سنوات ويتطلب مليارات الدولارات في حين أن إدارته تفتقر للمال.
وهو صاحب طول فارع ومنكبين عريضين وفي منتصف الأربعينيات من العمر ومغرم برواية ماضي مدينته التي كانت مركزا للعلم والثقافة.
ويقول حبو متسائلا « ما الذي من المفترض أن نفعله؟ نحفر الأرض ونطلع فلوس؟.»
وتعكس المشاق التي يكابدها كل يوم التحديات التي تواجه مدينة لها أهميتها في جهود تحقيق الاستقرار في العراق. جاء وقت كان عدد سكان المدينة فيه نحو مليوني نسمة. أما الآن فيقدر عدد النازحين من سكانها بحوالي 700 ألف يحتاجون ما لا يقل عن ملياري دولار لإعادة البناء وفق تقديرات الحكومة الاتحادية.
وقبل الحرب كانت الموازنة الإدارية للمدينة تبلغ 80 مليون دولار سنويا أما الآن فلا تعرف المدينة كيف تسدد فواتيرها.
وفي منتصف يناير/كانون الثاني قال حبو في مقابلة أنه ليس لديه موازنة لعام 2018 غير أن المدينة تحتاج 75 مليون دولار للحفاظ على الخدمات الأساسية.
وقال أنه يعتقد أنه قد يحصل على عشرة ملايين دولار من وزارة البلديات والأشغال العامة التي تتولى الإشراف على الإدارات البلدية.
ولا يتوقع حبو الكثير من حكومة المحافظة التي كانت تزود الموصل سنويا بنحو 60 مليون دولار. وتشهد الحكومة المحلية حالة من الفوضى بعد إيقاف المحافظ عن العمل في تحقيق في اتهامات بالفساد وتعذيب صحافيين. وينفي المحافظ ارتكاب أي مخالفات.
وما يخشاه حبو ومسؤولون غربيون هو أن يؤدي الدمار وغياب العون إلى إشعال نار المظالم الطائفية من جديد.
فعلى مدى سنين ظل سكان الموصل الذين يغلب عليهم السنة يشكون من التهميش على أيدي الحكومة المركزية التي يقودها الشيعة، ومن معاملتهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وحرمانهم من الوظائف التي تحظى بالتقدير والمناصب الكبرى في قوات الأمن.
ودفعت مشاعر الاستياء الكثيرين من أفراد الطائفة السنية في الموصل إلى الترحيب بقدوم تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي سيطر على المدينة في العام 2014 ونادى بالحرب على الأغلبية الشيعية في العراق.
ويريد حبو وهو سني تحاشي الظروف التي قد تمكن جماعة متطرفة جديدة من استغلال مشاعر الإحباط من الحكومة المركزية وفرض تهديد أمني جديد. ويقول «إذا لم تستثمر بغداد بشكل مناسب في ترميم الموصل فقد يحصل شيء أسوأ» من الدولة الإسلامية. وأضاف «من دون تبصر قد تكون لدينا عواقب سلبية».
وتشترك في هذا الرأي ليز غراندي، التي كانت حتى عهد قريب منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق وأشرفت على برنامج تحقيق الاستقرار الذي طرحته الأمم المتحدة لتوفير الاحتياجات الإنسانية الفورية.
وقالت «إذا لم نحقق الاستقرار في تلك المناطق بسرعة فقد يعاود التطرف العنيف الظهور من جديد وتضيع المكاسب التي تحققت ضد تنظيم الدولة الإسلامية».
ولم ترد حكومة بغداد على طلبات للتعليق على إعادة إعمار الموصل والتوترات المتفشية.
وبالنسبة لحبو يمثل الأمر مهمة شاقة. فالناس يأتون إلى مكتبه طوال النهار يقدمون مطالب لا نهاية لها. فمنهم موظفو الدولة الذين لم يتقاضوا مرتباتهم منذ شهور، والعاملون في المدينة الذين يحتاجون المزيد من العربات لرفع النفايات المتراكمة، وكذلك مسؤولو المصانع الذين يحتاجون بشدة للوقود. بل إن بينهم راعي الغنم الذي يطلب المساعدة في نقل أغنامه عبر وسط المدينة.
ويشعر كثيرون من أهل المدينة بأن المسؤولين تخلوا عنهم. وينتشر في بعض المناطق نساء وأطفال يغطيهم التراب يبحثون وسط الركام عن قطع المعادن الخردة التي يمكنهم بيعها.
وفي أحد مستودعات النفايات في ديسمبر/كانون الأول خاضت امرأة مسنة في كومة من النفايات النتنة للبحث عن شيء يمكن الانتفاع به.
وقال المرأة مستخدمة الاسم الشائع للتنظيم المتطرف «على الأقل أيام داعش كنا نتعامل بشكل أحسن ولم يكن يطلب منا جمع القمامة».
أسواق مهجورة
يصور حبو نفسه بأنه رجل يمكنه التصرف في أي شيء بعد أن أمضى 17 عاما في العمل في البلدية بدأت في عهد الرئيس السابق صدام حسين.
وخلال حركة التمرد التي بدأها تنظيم القاعدة كان المسؤولون المحليون بمن فيهم حبو نفسه مستهدفين. فقد تعرض لثلاث محاولات اغتيال ومازال يشعر بالألم من الجروح التي أصيب بها. وقال ان رصاصتين لا تزالان تسكنان في الجزء السفلي من ظهره.
ويعمل حبو 18 ساعة في المتوسط كل يوم. وفي كثير من الأحيان ينام على حشية يحتفظ بها في مكتبه. ففي لحظة يستقبل ضيوفا في مكتبه ويقدم لها أكواب الشاي المحلى وفي اللحظة التالية يعلو صراخه في الهاتف للعاملين أو يتجادل مع بعض المطالبين بالمساعدة.
ويمثل نهر دجلة الذي تجري مياهه عبر المدينة خطا فاصلا في مهمة إعادة الإعمار.
ففي الشطر الشرقي الذي نجا من أسوأ الاشتباكات عاد جانب كبير من الحياة إلى طبيعته، ونشطت الحركة في الأسواق، وامتلأت الفصول الدراسية بالتلاميذ، وحركة السيارات لا تهدأ.
غير أن الصورة أسوأ كثيرا في الشطر الغربي حيث استدرج المتطرفون القوات المهاجمة إلى اشتباكات من بيت لبيت في المدينة القديمة المؤلفة من شوارع ضيقة تعود لمئات السنين.
ويقدر المسؤولون أن 40 ألف منزل دمرت في الشطر الغربي من المدينة، الذي بدأت بعض مظاهر الحياة المدنية تعود إليه على استحياء.
ويقول حبو ان نحو ألف أسرة فقط، أي حوالي 5000 فرد، عادت إلى المدينة القديمة من بين سكانها البالغ عددهم نحو 200 ألف نسمة.
ولا يزال كثير من النازحين يعيشون في مخيمات أو انتقلوا إلى شرق الموصل الأمر الذي فرض مزيدا من الضغوط على البُنية التحتية المنهكة.
وتقدر الأمم المتحدة أن الأنقاض المتراكمة تبلغ نحو عشرة ملايين طن في الموصل عموما وترتفع في شوارع المدينة القديمة حتى مستوى الركبة.
وتتناثر ملابس أطفال وكتب جامعية بل وأشلاء بشرية بين ركام الأبواب المحطمة وألواح الصلب المعوجة وكلها بقايا حياة في مدينة تعرض نصفها للدمار.
فقد أصبحت المباني الأعلى التي احتلها القناصة وتحولت إلى مصانع مؤقتة للقنابل خلال القتال إلى أكوام من الخرسانة. وتحولت الأسواق إلى خرائب تتناثر محتوياتها المحترقة التي يغطيها التراب، خارج المتاجر المدمرة التي كانت تبيع كل شيء من الأقراص المدمجة إلى الزعفران والساعات المستعملة.
وتقبع رافعات عملاقة في الساحة الرئيسية لرفع الركام والسيارات التي تملؤها ثقوب الرصاص، ولهدم المباني غير المستقرة. ويعمل رجال في كنس التراب ورفع النفايات.
وقال حبو عن جهود رفع الركام وهو يسير وسط الأسواق ذات صباح في منتصف شهر يناير/كانون الثاني «كل شهر نتقدم على بعد 100 متر في المدينة القديمة. الأمر بطئ لكن هذا كل ما يمكننا عمله بالمصادر اللي عندنا الآن».
ولمساعدة مناطق مثل الموصل شكلت الحكومة العراقية هيئة تسمى صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية.
وقال فاضل عبد الأمير، المستشار في وزارة البلديات المشاركة في الصندوق، ان الموازنة الاتحادية خصصت 400 مليون دولار للصندوق العام الماضي. لكنه أضاف أن المبلغ الذي حول فعلا للصندوق يبلغ 120 مليون دولار فقط مخصصة لكل المناطق التي تم تحريرها في العراق لا للموصل وحدها.
ويقول حبو ان الموصل تلقت ما يعادل 252 ألف دولار فقط من الصندوق في 2017. ويضيف وقد بدا عليه الإحباط «هذا ما نحتاج لصرفه كل ساعة. هذا ليس منصفا في حق أهل الموصل». وامتنعت الحكومة في بغداد عن التعليق.
نقص فادح في عدد الموظفين
ويضيف ان البلدية لديها في الوقت الحالي 1500 موظف لكنها تحتاج 10000. وسرق تنظيم «الدولة الإسلامية» أغلب معداتها أو دمرها.
و أن عدد المعدات التي سرقت أو دمرت يبلغ نحو 970 قيمتها حوالي 350 مليون دولار، وأنه لم يبق في المدينة سوى جرافتين متخصصتين صغيرتي الحجم بما يتيح تطهير الشوارع السكنية الجانبية.
ومن أجل البقاء تراكمت الديون على المدينة وصارت تعول على صبر عمالها. وقال حبو ان البلدية عليها سبعة ملايين دولار لمقاولين وعمال استعانت بهم في 2017. وأضاف «ما دفعنا رواتب عمالنا عن أربعة أشهر».
كما أن إمدادات الوقود ليست كافية. فعلى أطراف الموصل يقع مصنع لصناعة الأسفلت الضروري لجهود إعادة الإعمار. وقال مدير المصنع وفار يونس زنون ان المصنع يحتاج 5000 لتر من الوقود يوميا لكنه يتسلم 3000 لتر فقط مرتين في الأسبوع. وقال «نضطر للإغلاق ثلاثة أيام في الأسبوع».
ويحتاج حبو لطمأنة الناس من أمثال أم رسل التي عادت في أكتوبر/تشرين الأول إلى بيتها في حي الباب الجديد في المدينة القديمة في الموصل. ويحرص مدير البلدية على تطهير شارعها والشوارع الواقعة حوله من الركام. لكن لا توجد في الحي أي مياه أو كهرباء.
وطلبت أم رسل من حبو التعجيل بتوصيل الخدمات الأساسية إليها وثلاث أسر أخرى عادت إلى شارعها. قالت وهي تنفض رداءها الذي يغطيه التراب «أنا استحي أطلب أي شيء منك. الآن فقط نحتاج إلى مياه… لكن داعش دمر حياتنا».
وأصدر حبو الذي كان يرتدي بذلة أنيقة تعليمات لنائب بين حاشيته التي تضم 20 فردا كي يبحث أسباب التأخير.
ولا يكاد البعض يجد ما يسد الرمق وسط معاناتهم في بيوت شبه مهدمة. ففي أي يوم عادي قبل الحرب كان تاجر اسمه مؤيد، رفض ذكر بقية اسمه، يحقق دخلا يبلغ عشرة دولارات في اليوم من بيع سراويل الجينز المستعملة. أما الآن فهو يقول إن دخله يبلغ دولارا في الأسبوع بشق الأنفس. وتساءل «كيف أجيب فلوس لأرجع إلى بيتي؟».
وذكر أنه اضطر لاقتراض 25 دولارا من شقيقته فقط لشراء أغطية بلاستيكية وبعض الكتل الإسمنتية لإيواء أسرته المؤلفة من 13 شخصا. ويخشى أنه حتى إذا وصلت أموال المساعدات فإنها لن تصل لأشخاص مثله.
وقال مؤيد «أحسن شيء هو أن المجتمع الدولي يوفر المال لنا مباشرة ولإعادة بناء بيوتنا ومدينتنا لأنك تعرف إنه إذا المال إلى أيدي الحكومة فلن نرى منه دينارا».
لم يكن اختيارا حكيما
في وقت سابق هذا العام أقرت الحكومة المركزية ومسؤولون في الموصل خطة تهدف إلى تخفيف حدة التوترات الطائفية وحراسة المدينة بشكل أكثر فعالية. وكان من المفترض أن يتم سحب الشرطة الاتحادية والفصائل الشيعية القوية التي كانت توفر الأمن منذ تحرير المدينة في العاشر من يوليو/تموز بشكل تدريجي، ونشر وحدة للجيش يقودها اللواء نجم الجبوري الذي يتمتع بشعبية وينحدر من عشيرة سنية كبيرة.
ووافق مسؤولون عراقيون وغربيون على هذا الترتيب لمساعدة المدنيين السنة المشردين على الشعور بالأمان الكافي للعودة إلى المدينة. وواجهت الفصائل الشيعية اتهامات طوال فترة الحرب بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القانون ضد السنة المشتبه في دعمهم لتنظيم «الدولة الإسلامية». لكن الخطة أرجئت إلى أجل غير مسمى، وفقا لمصادر عسكرية وحكومية، بسبب زيادة العنف في المناطق المحررة.
ولا تزال التوترات الطائفية واضحة في المدينة. وفي يناير/كانون الثاني، قام أعضاء فصائل شيعية مدعومة من إيران والشرطة الاتحادية بوضع ملصقات لزعيم الثورة الإيرانية آية الله روح الله الخميني في ساحة رئيسية في الموصل.
وقال حبو غاضبا «لم يكن اختيارا حكيما… لقد قدمنا الكثير من الشهداء الذين قاتلوا إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية والآن يضعون صور الخميني!».
وكانت التحديات أمام خلق وئام طائفي واضحة أيضا في ضواحي الموصل. وقال رجال فصائل شيعية كانوا يقفون على جانب طريق يؤدي إلى مكب للنفايات أنهم وكثيرين من رجال الفصائل الآخرين ليس لديهم نية لمغادرة المدينة.
وقال أحد الرجال ويدعى جميل خضر وكان يحمل بندقية ايه.كي. 47 «أنا مهتم فقط بالأمن». ومثل غيره من أفراد الفصائل فهو عازم على أن تسيطر الفصائل على أكبر قدر ممكن من المنطقة.
وقال «لدينا ما يكفي من الأسلحة. لدينا أسلحة آلية وقذائف صاروخية».
ومع سعي حبو لرأب صدع الانقسامات وإعادة بناء المدينة، فهو يدرك حجم الصعوبات جيدا.
وقال بينما كان جالسا في مكتبه متأهبا للتعامل في بداية ما كان يعرف أنه يوم طويل «العراق بلد منقسم بصدق. الناس منقسمون لكن رسميا نحن لسنا منقسمين». وتساءل إن كانت الموصل والمناطق المحيطة بها ينبغي أن تنفصل عن بغداد وتحكم نفسها ذاتيا.
وتابع قائلا «لازم يساعد الجميع في ترميم المناطق المحررة لأنه في العراق تحملنا إرهابيين من كل الدول». وتحدث عن عدة دول لعبت دورا في خراب مدينته من إيران وحتى الولايات المتحدة. وقال «كلهم جاءوا الموصل والتحالف شن حربا ضدهم ودمروا الموصل».
القدس العربي