فشل السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط

فشل السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط

580

يثير تعامل الساسة الروس مع قضايا وملفات الشرق الأوسط -وخاصة بعد اندلاع الثورات العربية- تساؤلات عديدة حول السياسة الخارجية الروسية في هذه المنطقة، وماهية المحددات والحيثيات التي توجهها، خاصة أن روسيا البوتينية (نسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين) تطمح للعب دور الدولة العظمى، التدخلية، ذات الأذرع الطويلة، والنفوذ الواسع.

كما تطمح لأن تمسك بخيوط جميع الملفات الساخنة، فيما يكشف واقع الحال أنها ليست أهلا لمثل هذه التحديات، ولا تملك ممكنات ومؤهلات القيام بمثل تلك الأدوار، على مختلف المستويات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، كونها أقرب إلى دولة ريعية، اعتماد اقتصادها الأساسي يقتصر على ما تجنيه من بيع النفط والغاز والأسلحة، فإذا انخفض سعر البترول يترنح اقتصادها وتتراجع القدرات الإنتاجية، الصناعية والزراعية، ولعل أي زائر إلى موسكو سيلاحظ أن أكثر من 99% من السيارات التي تسير في شوارعها غير روسية، مثلها مثل أي عاصمة في دول ما كان يسمى “العالم الثالث”.

غياب المنهجية

“يلاحظ المتتبع للموقف الروسي حيال ما حدث في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا من ثورة وتغيرات، أن المواقف الروسية ما زالت تستند إلى إرث مرحلة الحرب الباردة وما يتمخض عنها من ردات فعل ضد المواقف الأوروبية والأطلسية”

تمتد التساؤلات حول السياسة الخارجية الروسية إلى قدرات صانعي هذه السياسة، وخاصة المسؤولين في وزارة الخارجية، التي يقودها منذ عقود عديدة سيرغي لافرورف، ذلك لأنهم أظهروا عدم كفاءة في التعامل مع القضايا والملفات، ولم يخفوا مواقف تبطن العداء والممانعة للتطورات والمتغيرات الجديدة، في المنطقة، وبدت سياسة بلادهم غير مفهومة ومستهجنة من طرف غالبية الشعوب العربية.
ولم تكن مواقفهم مبنية على أسس مؤسسية، لها منهجية أو ضوابط معينة، ذلك لأن محدداتها تمحورت حول مصالح الشركات الروسية أكثر من ارتباطها بمصالح روسيا الوطنية البعيدة المدى، إضافة إلى أنها عكست هواجس من إمكانية امتداد الحراك الشعبي في المنطقة إلى كيانات الاتحاد الروسي ومحيطه الحيوي، وعكست كذلك ردات فعل لما يفرضه الغرب الأوروبي والأطلسي من تحديات على قادة موسكو، لذلك راح ساستها يتحدثون عن مؤامرات أطلسية غربية تقف وراء الثورات والانتفاضات العربية.

وقد برر بعض صناع الساسة الروس إرباكات وإخفاقات سياسة بلادهم الخارجية بالقول إن قيادتها الحاكمة تفضل الاستقرار في المنطقة العربية، والركون إلى الاستثمار الذي تقدمه تحالفاتها وعلاقاتها مع الأنظمة العربية المتقادمة، بالرغم من الإشارات الخجولة إلى مطالب الشعوب المحقة واحتجاجاتها السلمية، فيما يشير واقع الحال إلى رفض روسي تام للانتفاضات والثورات التي عصفت بالأنظمة العربية منذ ديسمبر/كانون الأول 2010، وأفضت إلى تغيير الأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وما زالت رياحها تعصف بالنظام المستبد في سوريا.

ويلاحظ المتتبع للموقف الروسي حيال ما حدث في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا من ثورة وتغيرات، أن المواقف الروسية ما زالت تستند إلى إرث مرحلة الحرب الباردة، وما يتمخض عنها من ردات فعل ضد المواقف الأوروبية والأطلسية، إلى جانب التخوف مما يمكن أن تقدمه التغييرات الجارية في بعض البلدان العربية من مساحات نفوذ للغرب الأوروبي والأطلسي. لكن ذلك لا يبرر الوقوف ضد مطالب الشعوب العربية وتطلعاتها إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، وتحسين أوضاعها وأحوالها المعيشية.

إن ما يهم القادة الروس هي المصالح الاقتصادية، وجردة حسابات الربح والخسارة، فهم يرون أن العقوبات الغربية على إيران جعلتهم يخسرون ما يقارب 13 مليارا من الدولارات، وأنهم خسروا أكثر من أربعة مليارات في ليبيا، كانت مبرمة في عقود معها كثمن أسلحة.

الأزمة السورية
لا شك في أن المصالح الروسية في سوريا كبيرة وهامة، حيث تقدر مبيعات الأسلحة الروسية إلى سوريا بمليارات الدولارات، حيث ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في يناير/كانون الثاني 2012، أن 10% من جميع مبيعات الأسلحة الروسية تذهب إلى سوريا، وتقدر بنحو 1.5 مليار دولار سنويا، بينما يقدر “معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي” الدولي، أن روسيا تزود النظام السوري بـ72% من الأسلحة التي يمتلكها.

وبدهي القول إن الموقف الروسي حيال ما يجري في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات، لا علاقة له بالجانب الإنساني أو الأخلاقي، لأن حسابات الساسة حيالها واعتباراتهم لا ترجحها الأيديولوجيا ولا المبادئ. ولم تكن كذلك في أي يوم من الأيام، والأمر نفسه يسري -ولو بدرجات متفاوتة- على مواقف الدول الكبرى والمؤثرة على الساحة الدولية.

“يبدو أن القادة الروس أرادوا أن يتخذوا من الأزمة السورية مثالا لإظهار مدى قوتهم وتأثيرهم في الأزمات الدولية، فأعلنوا عودة اللاعب الروسي من جديد إلى مسرح الشرق الأوسط، خصوصا بعد الثورة الليبية التي أحسوا من خلالها أن الغرب أبعدهم وتجاهلهم”

ويبدو أن القادة الروس أرادوا أن يتخذوا من الأزمة السورية مثالا لإظهار مدى قوتهم وتأثيرهم في الأزمات الدولية، فأعلنوا عودة اللاعب الروسي من جديد إلى مسرح الشرق الأوسط، خصوصا بعد الثورة الليبية التي أحسوا من خلالها أن الغرب أبعدهم وتجاهلهم، ويريدون من الدول الغربية أن تحسب حسابهم وتشركهم في حل القضايا والأزمات الدولية.

وعلى أساس العودة الروسية المزعومة، راح القادة الروس يتعاملون مع الأزمة السورية بوصفها صراعا دوليا على سوريا، متعدد الأطراف، إقليميا ودوليا، ومختلف المركبات، الداخلية والخارجية. واعتبروا أنه يتوجب عليهم توفير الحماية للنظام، بما يفضي إلى منع محاولة الدول الغربية تجريدهم من أهم القلاع المتبقية لهم في المنطقة.

وعليه، لم يتوقفوا عن توفير الغطاء السياسي للنظام، وعن التعامل مع الأحداث في سوريا من زاوية الصراع الخارجي، وتمادى وزير الخارجية سيرغي لافروف في الحديث عن “الجماعات الإرهابية” و”العصابات المسلحة” و”المؤامرة الخارجية” التي تتعرض لها سوريا، وعن التدخل العسكري الخارجي.

بل راح ينظر إلى الأزمة السورية بوصفها مسألة صراع دولي وإقليمي، تتطلب حضور روسيا القوي، كي تتمكن من سد ساحة الفراغ الحاصل في هذا البلد، بالنظر إلى ما يتمتع به من موقع جيوسياسي هام بالنسبة إلى روسيا في المنطقة، خاصة في ظل معرفته الجيدة بعدم رغبة واستعداد الولايات المتحدة الأميركية للتدخل العسكري المباشر في الشأن السوري، كونها تفضل ترك الوضع السوري يتداعى، في ظل التدخل الإيراني السافر، ولا مانع لديها البتة من أن يصل إلى حالة من التعفن والتفكك والاقتتال العبثي ما بين المتطرفين من الشيعة والسنة.

وحشد الساسة الروس كل طاقاتهم الدبلوماسية والسياسية في الصراع على سوريا، فاستخدموا الفيتو في مجلس الأمن الدولي أربع مرات، بغية منع صدور أي قرار دولي يدعم التغيير في سوريا، واستمروا في تنفيذ صفقات السلاح المبرمة وتوفير الدعم والخبرات والخبراء الأمنيين والعسكريين، الأمر الذي وصل إلى درجة كبيرة من الدعم والإسناد.

وصار التنافس في مجلس الأمن الدولي تعبيرا عن مظهر من مظاهر تسجيل النقاط على الخصوم، وإفشال مشاريعهم، حيث تمكنت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية من إظهار روسيا والصين بوصفهما البلدين الذين يتحملان وزر إطالة أمد الأزمة في سوريا، وبالتالي مسؤولين أخلاقيا وإنسانيا عن إراقة المزيد من الدماء السورية.

وظهر القادة الروس في موقع من يتصرف بردات الفعل حيال الغرب ومخططاته وطريقة تعامله مع ما يجري في المنطقة العربية. وارتكبوا أخطاء في تقديرهم لحسابات الربح والخسارة الجيوسياسية والاقتصادية، حيث وجدوا أنفسهم خاسرين إستراتيجيا واقتصاديا، بسبب مواقفهم المشككة والمريبة من التحولات التي أحدثتها الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وربطوا ما يجري في سوريا بالتهديد المباشر الذي يأتيهم من نشر رادارات الدرع الصاروخي في تركيا، إضافة إلى خوفهم من خسارة ما يتوفر لأسطولهم البحري في ميناء طرطوس، بوصفه الموقع الإستراتيجي المميز على الشواطئ السورية، الذي يمكنهم من التواجد في مياه البحر الأبيض المتوسط.

وساد اعتقاد في الأوساط السياسية الروسية، يفيد بأن حمايتهم للنظام السوري ستوفر لهم حضورا قويا في مختلف ملفات الشرق الأوسط، وفي التسويات التي يمكن أن تحصل في المستقبل بخصوص إيران وملفها النووي، بل يمكن أن يشكل سابقة يمكن البناء عليها مع إيران والعراق ولبنان، ضمن سياسة بناء حلف جديد في المنطقة، تكون روسيا محوره الأساس والفاعل.

مع النظام ومعارضته

“كان الأجدى لروسيا أن تبحث عن إيجاد فرصة للحيلولة دون دخول الملف السوري حيز التدويل، بل كان يمكنها أن تلعب دورا إيجابيا في الأزمة السورية بالنظر إلى علاقاتها التاريخية مع سوريا، وذلك من خلال الإسهام الفاعل في فتح المجال السياسي الذي أغلقه النظام منذ اليوم الأول للثورة “

كان الأجدى لروسيا أن تبحث عن إيجاد فرصة للحيلولة دون دخول الملف السوري إلى حيز التدويل، بل كان يمكنها أن تلعب دورا إيجابيا في الأزمة السورية بالنظر إلى علاقاتها التاريخية مع سوريا، وذلك من خلال الإسهام الفاعل في فتح المجال السياسي الذي أغلقه النظام منذ اليوم الأول للثورة السورية، الأمر الذي فاقم من صلابة جدار الأزمة الوطنية السورية العامة.
وقد استغلت الخارجية الروسية الفراغ السياسي الذي أحدثته الإدارة الأميركية في الملف السوري، وقامت بتحرك شحيح المحصول، تجسد في عقد لقاء تشاوري في موسكو في الفترة بين 26 و29 يناير/كانون الثاني الماضي، بين وفد من النظام وآخر معارض (معارضة من أجل النظام وليست ضده) وانتهى إلى الفشل، ثم كررت المحاولة، وعقدت لقاء موسكو2 التشاوري، في الفترة بين 6 و9 أبريل/نيسان الماضي الذي انتهى أيضا إلى فشل ذريع.
وظهر من لقائي موسكو الفاشلين أن ما بذله الساسة الروس من جهود، وما طرحوه من أفكار لحل الأزمة السورية، لم يرق إلى مصاف مبادرة متكاملة، لها مرجعية وأسس وخطوات محددة، ولم تحظ برعاية دولية من طرف الدول الفاعلة في الملف السوري، لذلك بدا كأنهم يستغلون فراغا سياسيا، ويحاولون إشغاله في ظل غياب الفاعلين الآخرين في الملف السوري عن القيام بأي فعل لحل عقد أزمته الكارثية.

وأظهرت حصيلة التحرك الروسي، أن الساسة الروس يهمهم التركيز على الشكل دون الاهتمام بمضمون ما يطرحونه، لذلك انفض لقاءا موسكو التشاوريان دون أن ينتج عنهما شيء يذكر من التوافق أو الاتفاق على خطوات، أو حتى مقدمات حل سياسي للأزمة السورية التي باتت تشكل كارثة مدمرة، وغير مسبوقة في التاريخ السوري، قديمه وحديثه.

وأثار فشل لقائي موسكو التشاوريين الذين رعتهما الخارجية الروسية، تساؤلات عن دورها وكفاءتها حيال الأزمة السورية، وامتد الأمر إلى سياستها في منطقة الشرق الأوسط. وتحدثت أوساط مقربة من الكرملين عن عدم رضا لدى دوائر صناع القرار تجاه تحركات الخارجية وسياستها.

ولم يمض سوى وقت قصير على التفكير بأسباب فشل لقائي موسكو التشاوريين، حتى تلقت السياسة الخارجية الروسية صفعة، جسدها التصويت بالإجماع في مجلس الأمن على القرار 2216، الذي يطالب الحوثيين بوقف استخدام العنف وسحب قواتهم من صنعاء وبقية المناطق، ويفرض حظرا للسلاح على الحوثيين وعلى قوات الرئيس المخلوع علي عبد الله الصالح، الأمر الذي عنى هزيمة للسياسة الروسية الداعمة للحوثيين الذين يعتبرون الذراع التدخلية الإيرانية في اليمن.

عمر كوش

المصدر: الجزيرة نت