حتى يوم الثلاثاء الماضي، كان البنتاغون يدافع عن وجود عسكري أميركي إلى أجل غير مسمى في سورية. وفي حديثه في واشنطن، قال الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي، إنه في حين أن ائتلافاً من القوات الدولية قد أحرز تقدماً في معركة إضعاف تنظيم “داعش”، فإن “الجزء الصعب، كما أعتقد، ما يزال أمامنا”.
ولكن، يا لها من صدمة هي التي لا بدّ أن يكون الجنرال فوتيل قد اختبرها حين اكتشف لاحقاً أنه، في الوقت نفسه تقريباً وعلى بعد بضعة أميال فقط، كان الرئيس ترامب يعرض رؤية مختلفة تماماً أمام الصحافة في البيت الأبيض: “أريد أن أخرج. أريد أن أعيد جنودنا إلى الوطن”.
إننا نعرف كيف يشعر السيد ترامب. ولطالما تقاسمنا منذ وقت طويل المخاوف نفسها التي عبّر عنها هو والرئيس باراك أوباما قبله من تبعات التزام أميركي طويل الأمد في سورية؛ حيث “داعش” مجرد مشارك مقاتل واحد في مجموعة من الصراعات المتداخلة الوحشية التي كانت بدأت كحرب أهلية ضد الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2001، لكنها مزقت البلد إرباً وقتلت، حتى الآن، نحو نصف مليون إنسان.
المشكلة هي أن لدى السيد ترامب، مرة أخرى، دافعا -بل إن لديه في هذه الحالة الدافع الصحيح- وإنما ليس لديه استراتيجية؛ لديه عاطفة، وإنما القليل من المعرفة بالواقع على الأرض. وتتناقض دعوته إلى سحب القوات من سورية مباشرة مع تحذيرات القادة العسكريين الأميركيين الذين يعتقدون أن ذلك قد يؤدي إلى عودة انبعاث “داعش”، مثلما حدث مع عودة صعود المتشددين في العراق بعد أن أعاد الرئيس أوباما القوات الأميركية إلى الوطن من هناك. وينسجم كل هذا مع نمط مألوف للسيد ترامب: فهو يتخطى العمل الشاق الذي ينبغي أن يميز القائد العام للقوات المسلحة، سعياً للحصول على مكسب سياسي سريع، بينما يحيل المسؤولية عن اتخاذ القرارات العسكرية الصعبة إلى الجنرالات. ولحسن الحظ، في هذه الحالة، أقنعه الجنرالات بتنحية فكرة الانسحاب السريع جانباً لصالح نهج يكون مدروساً بعناية أكبر.
هناك ما يقرب من 2.000 جندي أميركي يقاتلون “داعش” في سورية اليوم. وفي كانون الثاني (يناير)، أعلن وزير الخارجية آنذاك، ريكس تيلرسون، أن هؤلاء الجنود يمكن أن يتوقعوا البقاء هناك إلى أجل غير مسمى. كما قال السيد تيلرسون أيضاً إن المهمة العسكرية ستكون “قائمة على شروط”، بمعنى أنها ستكون من دون تحديد موعد نهائي ومن دون معايير لإعلان النجاح. وكانت لدى الجنرال فوتيل رسالة مشابهة يوم الثلاثاء، حين وصف دور الجيش الأميركي المستقبلي في سورية بأنه تحقيق الاستقرار وتعزيز المكاسب، بينما “يتعامل مع قضايا إعادة الإعمار على المدى الطويل”، بما في ذلك تدريب القوات المحلية على الحيلولة دون تمكن “داعش” من استعادة موطئ قدم لنفسه في البلد.
على الرغم من ميوله الانعزالية، بدا أن الرئيس يؤيد هذا النهج. فمنذ توليه منصبه، قام بمضاعفة عدد القوات الأميركية المنتشرة في سورية ثلاثة أضعاف، تماماً بينما أرسل المزيد من القوات إلى أفغانستان. وفي الحقيقة، ذهب السيد ترامب إلى حد تخطيء الرئيس أوباما على وضع جدول زمني لسحب القوات من أفغانستان، وقال إن ذلك منح طالبان اليد العليا. والآن، فعل هو الشيء عملياً عندما أعلن أن “الوقت قد حان” لمغادرة القوات الأميركية الأرض السورية.
أعرب الرئيس ترامب عن الغضب لأن المملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى لم تسهم بما يكفي من الموارد في الحملة السورية. حسناً؛ لكنه يجب أن يكون قادراً، كرئيس، على فعل شيء حيال ذلك، خاصة بالنظر إلى العلاقة الوثيقة التي يزعم وجودها مع العائلة المالكة السعودية. فما هي خطته؟
لا يبدو أن الرئيس يدرك أن أي انسحاب أميركي يتطلب تفكيراً دقيقاً لضمان عدم التنازل عن المكاسب التي حققناها، أو تعريض القوات على الأرض للخطر أو عزل حلفائنا. ما الذي سيحدث، على سبيل المثال، للأكراد السوريين الذين كانوا شركاء مهمين للولايات المتحدة في محاربة “داعش”، والذين يتعرضون الآن لهجوم من تركيا التي تعتبر الأكراد إرهابيين؟ أو لإسرائيل، التي تشعر بقلق متزايد إزاء موطئ القدم الذي كسبته إيران، حليفة الأسد التي ينتقدها ترامب بشدة ويعتبرها تهديداً إقليمياً كبيراً؟
إلى جانب إيران، من المرجح أن يستفيد خصم بارز آخر للولايات المتحدة من رغبة الرئيس الواضحة في التراجع والانسحاب من الشرق الأوسط: روسيا. وقد ترك الرئيس ترامب لروسيا مُسبقاً المجال لأخذ زمام المبادرة في سورية، وهو يتخلى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن العمل الدبلوماسي الحاسم للتوصل إلى اتفاق سياسي بين الرئيس الأسد والثوار السوريين. وقد التقى بوتين، حليف الأسد، بالقادة الإيرانيين والأتراك في إسطنبول يوم الأربعاء الماضي من أجل تخطيط مستقبل سورية. فكيف يخدم ذلك المصالح الأميركية؟
الغد