منذ “ثورة الأرز” عام 2005 وانسحاب القوات السورية من لبنان، خسر «حزب الله» جميع الانتخابات البرلمانية التي خاضها. غير أن التغييرات التي طرأت على القانون الانتخابي والتحول في التحالفات السياسية جعلت «حزب الله» وحلفائه في موقف يؤهلهم لضمان أغلبية برلمانية غير مسبوقة في الانتخابات المرتقبة في الشهر المقبل، دون أي معارضة كبيرة. وبالتالي، ستزداد هيمنة «حزب الله» على صنع القرارات الأمنية والعسكرية في البلاد أكثر فأكثر.
إنهاك المعارضة
في عامي 2005 و2009، نجح “تحالف 14 آذار” المؤيد للغرب في تأمين الأغلبية البرلمانية على الرغم من التحديات الأمنية التي شكلها «حزب الله». ولجأ “الحزب” إلى التهديدات والعنف بعد كلتا عمليتي الانتخابات من أجل إضعاف انتصارات الإئتلاف الذي كان قد ساعد منذ عهد قريب على إنهاء الاحتلال السوري.
وفي عام 2008، بعد اعتصام استمر ثمانية عشر شهراً أدّى إلى تعطيل البرلمان وأجزاء أخرى من وسط بيروت، اقتحمت قوات «حزب الله» العاصمة وقضاء الشوف المجاور لإحباط ما اعتبرته مراسيم حكومية تنطوي على إشكاليات كبيرة. وخلال محادثات لاحقة جرت في قطر لوقف إطلاق النار، تم تشكيل “حكومة الوحدة الوطنية” التي نجحت بالفعل بتجريد “تحالف 14 آذار” من صلاحياته التي فاز بها في صناديق الاقتراع. وبعد ذلك بعامين، استقال عدة وزراء من كتلة «حزب الله»، مما أدّى إلى انهيار حكومة 14 آذار بقيادة رئيس الوزراء سعد الحريري، وأسفر عن تشكيل حكومة وحدة وطنية أخرى.
وفي انتخابات هذا العام المقرر إجراؤها في 6 أيار/مايو، ليس هناك داعي لأن يهتم «حزب الله» بتهديد الحكومات أو إسقاطها. فالحزب هو الآن على وفاق تام مع خصومه السياسيين السابقين. ويطمح رعاته الإيرانيون أيضاً إلى الحفاظ على الاستقرار في لبنان في الوقت الذي يعملون فيه على ترسيخ هيمنتهم على أجزاء أخرى من المنطقة. وفي الواقع، تغيرت الظروف بدرجة كبيرة لصالح الحزب منذ عام 2009. وبالرغم من أن الانتشار السوري كان سبباً للقلق بين بعض المواطنين اللبنانيين، إلّا أنه حسّن مؤهلات «حزب الله» في نظر ناخبين آخرين.
والشئ الأكثر أهمية هو أن المنافسة التي يواجهها الحزب ضعيفة جداً. إذ يستمر “تحالف 14 آذار” في التدهور، وأصبح الحريري يتوافق مع «حزب الله» أكثر من مواجهته. ويبدو أنه نزل عند رغبة الحزب بصورة أكثر منذ عودته من إقامته الجبرية في المملكة العربية السعودية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وتراجعه عن استقالته القسرية. أمّا هذه الموجة المؤسفة من الواقعية السياسية (أو الاسترضاء) فتنبع على الأرجح من تصدُّع علاقاته مع الرياض، الأمر الذي جعل مستقبله السياسي والاقتصادي أكثر اعتماداً على الجهات الفاعلة المحلية. وعلى الرغم من أن الحريري لا يقيم شراكة مباشرة مع «حزب الله» في الانتخابات، إلا أن حزبه يتواءم مع “التيار الوطني الحر”، الحليف المسيحي لـ «حزب الله»، في عدد كبير من الدوائر. وعليه، فمن المتوقع أن يفوز «حزب الله» من خلال تودده إلى الحلفاء المناسبين واستمالة خصومه المشتتين.
تأثير القانون الانتخابي الجديد
في العام الماضي، أقر لبنان قانوناً انتخابياً عزز فرص «حزب الله» في الفوز. واستناداً إلى التمثيل النسبي، خفّض القانون عدد الدوائر الانتخابية في البلاد من ستة وعشرين إلى خمسة عشر. وأصبح الناخبون الآن يختارون قائمة كاملة للحزب ويحددون مرشحاً واحداً يمنحونه “الصوت التفضيلي”.
ولطالما دعا مؤيدو الإصلاح السياسي في لبنان إلى إقامة نظام نسبي، مفترضين أنه سيشكّل برلماناً أكثر تمثيلاً تتمتع فيه الأقليات والأحزاب غير التقليدية بفرصة أفضل للفوز بمقاعد في مجلس النواب. وبدلاً من أن يؤدي القانون الجديد إلى فتح النظام السياسي، فإنه سيفيد المؤسسة السياسية اللبنانية. وستعمل آلية “الصوت التفضيلي” على تحفيز المواطنين على التصويت وفقاً لهويتهم الطائفية. وبالمثل، فإن الدوائر الانتخابية التي أعيد رسمها هي أكثر تجانساً من قبل، مما أدى إلى تقليص عدد دوائر الطوائف المختلطة وتقليص الفرص للتحالفات بين مختلف الطوائف أو التعاون فيما بينها.
وباختصار، تم تصميم القانون الجديد لترسيخ الوضع الراهن، مع الحفاظ على العديد من الشخصيات السياسية الرئيسية نفسها وجلب المزيد من الموالين لـ«حزب الله» إلى البرلمان. فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يفوز الزعيم المسيحي سليمان فرنجية – الذي يرأس “تيار المردة” ويعرب مراراً عن دعمه لنظام الأسد السوري – بكتلة أكبر بكثير، في حين من المرجح أن يخسر الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط بعض المقاعد.
النتائج المترتبة على فوز «حزب الله»
ما الذي يمكن أن يفعله «حزب الله» بنصره المتوقع الشهر المقبل؟ أولاً، من غير المرجح أن يتبجح الحزب، لأن القيام بذلك سيثير قلق المجتمع الدولي وربما يحث على فرض عقوبات غربية أو اتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية أخرى ضد لبنان. وبدلاً من ذلك، من المحتمل أن يتصرف وكأن شيئاً لم يتغير، وسيقوم بإعادة تثبيت الحريري في منصب رئيس الوزراء لإضفاء مسحة من الشرعية على الحكومة المقبلة. ولا يعني ذلك أن الحزب وشركائه في البرلمان سيتفقون على كل شيء، ولكن عندما يتعلق الأمر بقضايا رئيسية مثل التعيينات في المراكز الأمنية، والحروب في المنطقة، ومسائل السياسة الخارجية الأخرى، فإن «حزب الله» هو الذي سيتخذ القرارات.
ثانياً، من المرجح أن يحاول «حزب الله» استخدام أغلبيته البرلمانية لإضفاء الشرعية على أسلحته. وقد أكّد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله مؤخراً أن الرأي العام حول هذه القضية قد تغير، حيث قال: “إن غالبية الشعب اللبناني تدعم المقاومة في ردع إسرائيل، ومنع الإرهاب”. ونظراً لسياسة “الحياد” الجديدة التي طرحها الحريري – والتي تتلخص أساساً في عدم مواجهة «حزب الله» بعد الآن – فإن احتمال وجود حزب سياسي مسلّح بشكل دائم قد لا يشكّل مسألةً خلافية كبيرة بعد الآن، على الأقل على المستوى المحلي.
ثالثاً، قد يسعى «حزب الله» إلى إجراء تغييرات دستورية لضمان سيطرته على المدى الطويل. فعندما أنهى “اتفاق الطائف” الحرب الأهلية عام 1989، قام بإعادة تقسيم البرلمان لمنح المسيحيين والمسلمين تمثيلاً متساوياً، حيث ينتخب كل منهما 64 نائباً من مجموع 128 نائباً في الهيئة التشريعية. وفي الآونة الأخيرة، اقترحت “حركة أمل” المتحالفة مع «حزب الله» تغيير ذلك ليصبح نظاماً ثلاثياً بين المسيحيين والسنة والشيعة. وبالإضافة إلى منح «حزب الله» والفصائل الشيعية الأخرى مزيداً من السلطة، من شأن مثل هذا النظام أن يروق أيضاً للطائفة السنية، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان حلفاء «حزب الله» المسيحيين سيؤيدون ذلك.
احتواء الضرر
على الرغم من جميع المزايا المذكورة أعلاه، ما زال «حزب الله» يواجه بعض العقبات التي تمنعه من السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة اللبنانية. وسيكون من الحكمة أن تنظر الحكومات الغربية في سبل لتعزيز هذه الحواجز، وخاصة في القطاع الاقتصادي.
وباعتباره واحداً من الدول الأكثر مديونية في العالم، فاز لبنان بمساعدات تتجاوز قيمتها 11 مليار دولار في مؤتمر المانحين الذي استضافته باريس في 6 نيسان/أبريل. ومع ذلك، تم ربط هذه التعهدات بالإصلاحات الاقتصادية والهيكلية الرئيسية التي ثبتت صعوبتها على البلاد في الماضي. فقد فشلت بيروت في تنفيذ مثل هذه الإصلاحات بعد مؤتمرات باريس السابقة، ويبدو من غير المحتمل أن تفعل ذلك الآن. ولكن بدون إصلاحات جادة، تخاطر البلاد بالوقوع في أزمة اقتصادية طاحنة.
وفي أعقاب مؤتمر باريس الأخير، أشاد الرئيس ترامب بالتزام بيروت بالإصلاحات الضرورية مثل مكافحة الفساد، وزيادة الشفافية، وتحسين المساءلة والإدارة المالية. وأشار إلى أن “الولايات المتحدة تؤيد جهود لبنان الرامية إلى تعزيز مؤسسات الدولة الشرعية وتطوير اقتصاد مفتوح حر يخدم اللبنانيين كافة”.
من جهته، يركّز «حزب الله» على هذه القضايا أيضاً، على الأقل على المستوى الخطابي. ففي آذار/مارس، أشار السيد حسن نصرالله إلى الحاجة إلى مكافحة الفساد في أعقاب الانتخابات. كما تعهد بأن يقوم أعضاء كتلته البرلمانية، “كتلة الوفاء للمقاومة”، بمعالجة المشاكل الاقتصادية الملحّة. وتشكّل هذه القضايا أولويةً بالنسبة إلى القاعدة الانتخابية لـ «حزب الله»، وبالتالي فهي مصدر محتمل للمزيد من الظهور للحزب.
وعلى الرغم من أن الأوان قد فات لمنع الفوز الحتمي لـ «حزب الله» في الانتخابات، لا يزال بإمكان المجتمع الدولي اتخاذ عدة خطوات لاحتواء الحزب في مرحلة ما بعد الانتخابات. أولاً، على الجهات المانحة في باريس أن توقف تعهداتها إلى أن تعمل بيروت على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، لأن العديد من هذه الإجراءات من شأنها أن تمكّن مؤسسات الدولة الشرعية وأن تساعد في إضعاف الجهات الفاعلة غير الحكومية. ثانياً، يتعين على المسؤولين الأجانب أن يحثوا الحريري على عدم السماح لـ «حزب الله» بالاستفادة من سياسة “الحياد” التي طرحها رئيس الوزراء، حتى ولو استمر الحزب في دعم المبادئ العامة للاستقرار واللاعنف التي تكمن وراء هذه السياسة. بإمكان برامج المساعدة أن تفسح المجال أمام الغرب لمراقبة هذه السياسة وحماية مؤسسات الدولة كلما أمكن ذلك.
ولتقويض «حزب الله» بشكل أكبر، يتعين على المسؤولين الغربيين فضح الفساد الداخلي للحزب – وهو الأمر الذي يشكو منه الشيعة اللبنانيون بالفعل. فلا يجب السماح لـ«حزب الله» بتصوير نفسه على أنه يحارب الفساد بينما هو ضالع في الوقت نفسه في أعمال الفساد. ومن المرجح أن يؤدي نشر المعلومات الاستخبارية عن الكسب غير المشروع الذي يقوم به «حزب الله» وأنشطته الإجرامية إلى تقويض مصداقيته. وبالفعل، تستهدف العديد من الدول الغربية تمويلات «حزب الله» لأنه منظمة إرهابية، ويجب ألا تخفف من مثل هذه الضغوط لمجرد فوز الحزب بأغلبية برلمانية.
حنين غدار
معهد واشنطن