وجهت إدارة ترامب بضع عشرات من الضربات العسكرية ضد سورية، والتي يُزعم أنها استهدفت مرافق إنتاج وتخزين المواد الكيميائية. وكان ذلك عملاً خشي المجتمع الدولي أنه قد يفضي إلى نشوب حرب مكشوفة في سورية بين الولايات المتحدة، وإيران وروسيا، لكنه أسفر عن شيء أفضل قليلاً؛ حيث يبدو أن الضربة تمت معايرتها بعناية، وشملت هذه العناية تجنب إيقاع خسائر بحيث بدت الضربة رمزية إلى حد كبير في طبيعتها. وبذلك، لم تغير الضربة الحقائق على الأرض بطريقة يعتد بها.
أي منطق هو الذي يمكن أن نستخلصه من كل هذه الأحداث الاستراتيجية في سورية؟ إننا نواجه مجموعة محيرة من الفاعلين: القوات السورية؛ الثوار السوريين؛ الجهاديين من إيديولوجيات مختلفة؛ الإيرانيين؛ الروس؛ الأميركان؛ الإسرائيليين؛ الأتراك؛ السعوديين؛ القطريين؛ الإماراتيين؛ الميليشيات الشيعية؛ العراقيين؛ الأكراد؛ حزب الله -وكل هؤلاء عالقون في رقصة مميتة. ولكن، وبقدر ما قد يكون معقداً، فإن هذا الصراع الدموي الدائر على مدى سبع سنوات ما يزال يطرح الأسئلة الأساسية نفسها بعيدة المدى عن ماهية السياسة الأميركية في سورية والمنطقة. وهذه الأسئلة تتطلب إجابات.
هل تريد الولايات المتحدة
أن تنتهي الحرب؟
من حيث المبدأ، نعم، وإنما فقط وفق شروطها الصارمة التي تدعو إلى إنهاء حكم الرئيس بشار الأسد والقضاء على القوة الروسية والإيرانية في سورية. ولا يبدو أي من هذا متاحاً في منطقة الواقع.
لقد تأرجح الصراع على السلطة بين نظام الأسد وطائفة من المتمردين المختلفين على مدى سبع سنوات. وفي البداية، عندما واجهت الحكومة أول اندلاع للتمرد الداخلي في العام 2011، بدا أن الرئيس لن يدوم طويلاً في سياق الربيع العربي المتحول. ولكن، تبين بعد ذلك أنه عنيد بما يكفي.
كان الرئيس مستعداً للرد بلا رحمة على الانتفاضات المبكرة والقضاء عليها في مهدها. وقد ساعدته حقيقة أن المواطنين السوريين كانوا متناقضين للغاية عندما يتعلق الأمر بانهيار حكومته. وحسب نوعية الأنظمة الإقليمية، فقد كان نظامه استبدادياً بلا أي شك، وإنما ليس أكثر وحشية من المعتاد في المنطقة -على الأقل ليس حتى هددت القوى المتمردة المبكرة وجوده بحيث شرعت دمشق في الكشف عن أنيابها الحقيقية.
في الحقيقة، لم يرد الكثير من السوريين اندلاع حرب أهلية -وهو أمر مفهوم بما يكفي بما أن الكلف البشرية والمادية سوف تكون مدمرة. ثانياً، كان لدى أعداد كبيرة من السوريين الذين لم ينطووا على غرام خاص بالأسد سبب أكبر للخوف مما قد يأتي بعده: على الأرجح مزيج ما من القوى الجهادية المتطرفة. وفي حقيقة الأمر، ربما يرجح أن يشرع الجهاديون المنتصرون عندئدٍ في خوض صراع داخلي على السلطة فيما بينهم، تماماً مثلما حدث في الحرب الأهلية التي اندلعت بين المجاهدين الأفغان بعد انسحاب القوات السوفياتية في العام 1988، والتي لم تفعل سوى تدمير البلد.
في حقيقة الأمر، ومن موقع الراحة التي توفرها عزلتنا الأميركية، تبدو مثل هذه القضايا أقرب شبهاً بلعبة حرب إلكترونية، أو بألعاب الاستراتيجية التي يمارسها المرء وهو يجلس في مقعد ذي ذراعين. لكن المخاطر تكون بالنسبة للناس الذين يعيشون فعلياً في مناطق الحرب حقيقية بشكل ساحق. وعند نقطة معينة، سيكون أي سلام تقريباً أفضل من أي حرب تقريباً. وقد تكون واشنطن راغبة في القتال حتى آخر سوري، لكن معظم السوريين ليسوا راغبين بفعل ذلك عندما لا تعرض معظم النتائج أكثر من الموت والدمار.
لكن زمن التكنهات بشأن مصير النظام انقضى الآن: أصبح الأسد قريباً من استعادة سيطرته على كامل البلد. وكانت حيرة الكثير من السوريين، والعجز والانقسامات الشائعة بين الكثير جداً من القوى المناهضة للأسد، وفوق كل شيء المساعدة الروسية والإيرانية الجدية لدمشق، هي التي شكلت نقطة التحول الأخيرة.
ولكن، هل واشنطن مستعدة لأن تقبل -مهما كان ذلك على مضض- باستعادة الأسد السيطرة على بلده الخاص؟ (من الجدير ملاحظة أنه مهما تكن القضايا التي على المحك في سورية، فإن روسيا وإيران كانتا قد تلقتا الدعوة -بشكل مشروع- من الحكومة السورية لتقديم المساعدة العسكرية، في حين لم تكن الولايات المتحدة، من الناحية الأخرى، مدعوة للتدخل في سورية، وهي تقاتل في سورية، من الناحية القانونية، بشكل “غير قانوني”). وفي واقع الأمر، كان هدف واشنطن كل الوقت هو مواصلة نهج “تغيير النظام بالقوة” في المنطقة، والذي شمل أفغانستان، والعراق، وليبيا، واليمن، وربما الصومال، من بين صراعات أخرى.
وإذن، هل من المبرر، بل وحتى الأخلاقي، أن يستمر القتال حتى آخر سوري؟ أم أن على الولايات المتحدة أن تقبل، على مضض، بنهاية الحرب، والسماح باستعادة الأمن العام، والغذاء، والدواء، وإتاحة الفرصة للبلد المدمر ليعيد بناء نفسه؟ من منظور إنساني، سوف يبدو الخيار واضحاً.
وإذن، ما الذي تقاتل الولايات المتحدة لأجله؟
لقد سعت واشنطن إلى عزل عائلة الأسد أو الإطاحة بها، الأب والابن، لأكثر من أربعين عاماً؛ وقد نظرت إليهما على أنهما يمثلان قومية عربية (علمانية) عنيدة تقوم على مناهضة للاستعمار، ومقاومة أهداف الولايات المتحدة، ورفض الانحناء لحدود إسرائيل المتوسعة بلا توقف واضطهادها للفلسطينيين.
لقد تعلم العالم أن أي دولة لا تقبل بالنظام الذي تصممه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تصبح “دولة مارقة” -وبذلك تفقد أي حقوق سيادية على المسرح الدولي. وكانت سياسات واشنطن مقودة كل الوقت بكثافة بأجندة إسرائيل الإقليمية الخاصة. ولذك، يبدو الأمر أشبه بتناول حبة دواء مرة: القبول ببقاء الأسد في السلطة إلى أن يتمكن النظام الدولي في نهاية المطاف من صياغة عملية سياسية ما، والتي تأتي بحكومة أكثر تمثيلاً هناك.
لكن سياسة الولايات المتحدة، مع كل حديثها عن حقوق الإنسان والرفاه، ليست معنية بوضع حد للحرب وفق أي شيء سوى شروطها الخاصة. ولم يعد الأمر كله متعلقاً بسورية من الأساس. فقد أصبح قدر سورية أن تبقى مسرحاً لتحقيق مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية الأكبر: ضبط النفوذ الروسي والإيراني في الشرق الأوسط. وسوف يدفع السوريون أنفسهم الثمن -لكنهم لا يهمُّون.
مع ذلك، تبقى الحقيقة أن واشنطن لم تعد هي التي تقرر وحدها الشكل الاستراتيجي للشرق الأوسط. وقد انتهت كل الجهود لفعل ذلك على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية بكارثة على الجميع فعلياً، بمن فيهم الولايات المتحدة.
ثمة حقيقة أخرى مهمة أيضاً، هي حضور روسيا كقوة دبلوماسية واستراتيجية في الشرق الأوسط. ولروسيا تاريخ لمئات عدة من السنين من الوجود هناك، قبل وقت طويل من الولايات المتحدة، أو حتى بريطانيا؛ فحتى في عهد القياصرة، كانت موسكو هي الحامي الرسمي للمسيحيين الأورثوذكس الشرقيين في بلاد الشام.
روسيا والولايات المتحدة تتشاركان أهدافاً في الشرق الأوسط
بعد توقف لنحو عقدين بعد سقوط جمهوريات الاتحاد السوفياتي الاشتراكية وانهيار النظام الاقتصادي الروسي، عادت روسيا الآن مرة أخرى كلاعب في المنطقة. وهذه الحقيقة لن تتغير. ولا ينبغي أن يشكل التواجد الروسي في الشرق الأوسط تحدياً لا يطاق للمصالح الأميركية. وفي الحقيقة، تتشارك روسيا والولايات المتحدة في العديد من الأهداف المشتركة، وليس أقلها الحاجة إلى الاستقرار الإقليمي، والتدفق السلمي للطاقة، والقضاء على الحركات الجهادرية العنيفة مثل تنظيمي “داعش” والقاعدة.
ولكن، إذا قيض لأيديولوجيي المحافظين الجدد و”التدخليين الليبراليين” أن يسودوا -وقوتهم آخذة في الازدياد في الحقيقة- فإن مصلحة أميركا العليا في الشرق الأوسط ستتركز على ضبط روسيا -فيما يرقى إلى نبوءة محققة للذات بالمواجهة الحتمية. وبالنسبة لهؤلاء الأيديولوجيين، لا يمكن أن يكون هناك أي إمكانية للتوفيق: يصبح الأمر لعبة محصلتها صفر، وليس “كسب-كسب” وإنما “كسب-خسارة”.
إن هذا الموقف الأميركي مصمم أيضاً لإدامة الوجود العسكري لواشنطن في سورية لوقت طويل قادم -مع القليل إلى حد الإدهاش من الإمكانية. ولن تذهب روسيا إلى أي مكان. وإيران، التي تقوم الآن بتطبيع علاقاتها تدريجياً مع معظم العالم، سوف تكون أيضاً بصدد استئناف مكانها كلاعب شرق أوسطي رئيسي. ومع ذلك، تبقى إيران نقطة هوس بالنسبة لواشنطن، والتي يُنظر إليها بالمثل كـ”دولة مارقة -وهنا أيضاً بما يعكس تصميم إسرائيل الخاص على الهيمنة استراتيجياً على الشرق الأوسط هي نفسها.
هل تشكل إيران “تهديداً طائفياً” كما يفهمه بعض الآخرين في المنطقة؟ إن إيران ترد باعتبارها “قوة شيعية” على الدرجة التي تهاجَم بها من القوى السنية المتشددة. وتنظر إيران إلى نفسها في المقام الأول -ليس كدولة شيعية، وإنما كدولة مسلمة- وواحدة عازمة على المزيد من التصدي للتدخلية الغربية في الشرق الأوسط. وهي تؤمن بأن بعض أنظمة المنطقة لا تمثل موجة مستقبل الشرق الأوسط.
وهكذا، يبقى السؤال: هل تسعى واشنطن حقاً إلى إنهاء الحرب –حرب لا تستطيع أن تكسبها؟ أما أنها ستقاتل من موقف الخاسر في بلد لم تكُن قد دُعيت إليه من الأساس؟ هل ستستمر في السعي إلى “تغيير النظام” في دولة أخرى أيضاً، مع كل ما ينجم عن ذلك من الفوضى وعدم الاستقرار، وتوفير مساحات لأكثر القوى الجهادية تطرفاً في المنطقة؟وهل سيتم التلاعب بنا واستغلالنا نحن أنفسنا كأدوات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل وبعض دول المنطقة؟
غراهام إي. فولر
صحيفة الغد