جرى في 14 يوليو/ تموز 2015، توقيع اتفاق فيينا حول النووي الإيراني بين إيران ومجموعة “5+1″، وهم أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمون، مضافاً إليهم ألمانيا. أمّا في 12 مايو/ أيار المقبل، فقد يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انسحاب بلاده من هذا الاتفاق، فيما عاد الحديث عن مخاطر الحرب. في هذا السياق، ماذا تستطيع فرنسا أن تفعل؟
سرعان ما أُغلق القوس الذي فتحه الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في علاقات الولايات المتّحدة بإيران. فبعد مايك بومبيو في وزارة الخارجيّة، عُيّن جون بولتون مستشاراً للأمن القومي الأميركي؛ ولم يُخفِ الرجلان أبداً عداءهما إيران، ولا تفضيلهما الحلول العدوانيّة. وقد نشر خبراء معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، القريب من إسرائيل، والمسموعون (في واشنطن)، قبل أيام، برنامجاً سياسياً وعسكريّاً يقترح أعمالاً إرهابيّة لزعزعة استقرار إيران: “على الولايات المتّحدة أن تُحضّر حملة حرب سيّاسيّة، تشمل عمليّات حرب نفسيّة، وتعطيل أهداف اقتصاديّة، وتسليح الأقليّات الكرديّة والعربيّة والبلوشيّة وغيرها لزعزعة استقرار الجمهوريّة الإسلاميّة. قد لا تهدّد هذه النشاطات بقاء النظام، لكن يمكنها أن تجبره على تحويل موارده المخصّصة لعرض قوّته في الخارج، لصالح الأمن الداخلي”.
ماذا يمكن أن تفعل فرنسا لتفادي الأسوأ؟ لا أحد يدّعي أنّ إيران ديمقراطيّة بلا طموحات، وأنّها تحترم القانون دوماً، لكنّ قدراً أدنى من الواقعيّة ضروري، إذ إنّ مآسي سورية والعراق واليمن وليبيا، والإرهاب، تبرّر أخذ البرنامج الجيوسياسي الإقليمي الجديد في الاعتبار: برزت العربيّة السعوديّة والملكيات النفطيّة خلال أربعة عقود، وهي تشرع في إصلاحات داخليّة؛ وعادت تركيا وروسيا إلى كونهما فاعليْن من الصف الأوّل، فيما تؤكّد الصين على دورها فاعلا اقتصاديا مهيمنا ومراقبا عسكريا محتشما. وأخيراً، فإنّ الإرهاب الجهادي بصدد أن يصبح مستقلّاً، وهو يُفلت من سيطرة رعاته، ويصل مباشرة إلى الدول الأوروبيّة.
منذ إطاحة الشاه في عام 1979، كانت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران “مُحتواةً”، ومحاربةً ومهمّشة. وهو وضع لم يعد واقعيّاً: وصلت أجيال جديدة إلى السلطة، وخاض “النظام
الإسلامي” تجربة أربعين سنة من الإسلام السياسي. وليستمرّ، فإنّه مضطّر، شيئاً فشيئاً، إلى تقديم تنازلات لمجتمع نعرف ديناميّته، وللمجتمع الدولي في ظل الاتفاق النووي، المعروف باللغة الإنكليزيّة “Joint Comprehensive Plan of Action” (خطّة العمل الشاملة المشترك). ثمّة قوميّة إيرانيّة جديدة ومركّبة بصدد البروز، سيكون من غير الواقعيّ تجاهلها.
لا تحظى الجمهوريّة الإسلاميّة بدعم جميع الإيرانيين، ولكنّ التوافق واسعٌ حول المسألة السوريّة، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) ورفض نظام إقليميّ أميركي. وعبر وضع ثنائية النظام والمجتمع وجهاً لوجه، نغفل عن أنّ القوميّة قد وحدّت جميع الإيرانيين ضدّ الهجوم العراقي عام 1980، وحول المسألة النوويّة، وأنّها ستوحّد المجتمع في حال وقع اعتداء، خصوصا إذا ما أتى من أقليّاتٍ مدعومةٍ من الخارج.
قطيعة مع سياسة “الأطلسية”
بعد عشر سنوات من سياسة خارجيّة فرنسيّة “أطلسيّة” واضحة، أكّد إيمانويل ماكرون في حملته الانتخابيّة على سياسةٍ مستلهمةٍ من ديغول ومتيران، تقطع مع “سياسة المحافظين الجدد على الطريقة الفرنسيّة”. تُرجمت هذه السياسة الجديدة بإعلانه في يناير/ كانون الثاني 2018 مشروع زيارة رسميّة إلى إيران، بعدما أعلن دونالد ترامب عن رغبته في عدم احترام خطّة العمل الشاملة المشتركة، إذا ما لم يُعَد التفاوض في شأنها، وقد حدّد موعداً نهائيّاً للبت في ذلك، هو 12 مايو/ أيار 2018. وستكون هذه الزيارة الأولى لرئيس دولة غربيّة منذ الثورة الإيرانيّة عام 1979، وسترسّخ “تطبيع” الوضع الدوليّ للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. وستسمح هذه الرغبة في أخذ إيران على محمل الجدّ بإعادة توازن صحيّة في علاقاتها مع الجوار العربي الخليجي، وستفتح آفاقاً سياسية جديدة من أجل إعادة بناء المنطقة.
الرهان كبير، وهو ما يفسّر نشاط جميع اللوبيات السعوديّة والإسرائيليّة والأميركيّة، خصوصا في فرنسا، من أجل ألا تتمّ هذه الزيارة أو أن تفشل. وتأثيرهم حقيقي في الإدارة الفرنسيّة ذلك أنّ “الأطلسيين” المنحازين لإسرائيل والسعوديّة (حتّى لا نقول المحافظين الجدد) عديدون وأذكياء وفعّالون، لا سيما بين الدبلوماسيين. في العالم السياسي – الإعلامي، كما عالم النشطاء، إذ يجري التدقيق في تعيينات المستشارين الدبلوماسيين، أو في المواقع الاستراتيجيّة في دواوين الوزارات أو في الوزارات، وتوضع زيارات الوزراء في المنطقة والوفود المرافقة لهم، تحت المجهر لمعرفة دلالاتها.
في ما يخصّ الملف الإيراني، ليس التوازن المهمّ في نظر الرئيس أمراً مسلماً به، بالنظر إلى الدور المتنامي باستمرار للمختصين في مسائل نزع السلاح أو الاستراتيجية (الذين يطبّقون نماذج ظهرت في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي) والانخراط الأقل لشخصيّات وموظّفين يتناولون مسائل سياسية يعرفونها جيّداً. نُفاجَأ بالمكانة المعطاة في الإدارة لأشخاصٍ كانوا قد عارضوا هذا الاتفاق في عام 2015، وهم مكلّفون رسميّاً بالدفاع عنه، أو بالأحرى بـ “إعادة التفاوض في شأنه” من خلال فرض شروط جديدة على إيران. نُفاجأ أيضاً بتكرار التصريحات الناقدة لـ “طموحات الهيمنة الإيرانيّة” عشيّة زيارة وزير الخارجيّة، جان إيف لودريان، إلى طهران في 5 يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي كان هدفها مناقشة هذا الاتفاق. في إيران، طالب المعارضون لأي تطبيع بإلغاء هذه الزيارة، لكنّها حصلت في آخر الأمر، وكانت عسيرة، كما أنّها لن تسهّل زيارة رئاسيّة مقبلة.
في صراعات النفوذ هذه، يكون العسكريّون عادةً الأكثر واقعيّة، فهم يتساءلون عن الدعم
المفرط لدول الخليج التي كان نموّها سريعاً جدّاً (أسرع مما ينبغي)، والتي لا تملك جيوشاً مبنيّة على مفهوم أمّة، حيث يكثر فيها المرتزقة. كما أنّهم يخشون أن تُتّهم فرنسا بالتواطؤ في جرائم حرب، بسبب بيعها أسلحة لبلدان تستهدف المدنيين، على غرار العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة في اليمن. وكثيراً ما يكون التاريخ الطويل للقوميّة، وللمركزية “الجاكوبينية”، للدولة الإيرانيّة، موضع إعجاب لدى العسكريين الذين يرون فيهما إمكانيّة للاستقرار، على الرغم من أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تطرح مشكلات صعبة، وتجرّ قضايا ثقيلة، مثل “تفجير دراكار” في لبنان عام 1983. منذ عام 2011، بقي منصب الملحق الدفاعي لسفارة فرنسا لدى طهران شاغراً، في حين أنّه سيكون مفيداً لقوّات الأمن لدينا من أجل إحاطةٍ أفضل بالمخاطر، ولتحديد التوازنات العسكريّة الجديدة في المنطقة بشكل ملموس، لكن الدبلوماسيين يقولون إنّ هذا “سيخلف استياء أصدقائنا السعوديين والإماراتيين”.
طهران: فرنسا في خدمة السياسة الأميركية
أيضاً، يدفع الدعم الفرنسي للاتهامات الأميركية ضدّ إيران نحو التساؤل. في حين أنّ الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة قد أكّدت أنّ إيران تحترم الاتفاق النووي، فإنّ فرنسا قد أخذت فوراً في الاعتبار، وحتّى دعمت، الموقف الأميركي الذي يطالب طهران بتنازلاتٍ جديدةٍ حول برنامجها الباليستي وسياستها الإقليميّة. وهما مسألتان حقيقيتان، لكنّهما لا تبرّران المساومة وعدم احترام الاتفاق الدولي. بالنسبة لطهران، هذا دليل على أنّ الولايات المتّحدة لا تحترم توقيعها وستجد دوماً شيئاً تقوله بخصوص السياسة الإيرانيّة، لتبرير عدائها اللامتناهي وعمل عسكريّ محتمل.
تستغرب إيران من أنّ فرنسا، وعوضاً أن تستخدم تأثيرها لحثّ حليفها الأميركي على احترام الاتفاق، وعلى الرفع الفعلي للعقوبات الاقتصاديّة، أخذت المبادرة، بالاشتراك مع المملكة المتحدة وألمانيا، لتطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوباتٍ جديدة ضدّ إيران، آملة في إرضاء دونالد ترامب. هذه المسائل هي موضع توافق وطني في طهران، حيث يُؤسف أن تكون باريس في خدمة السياسة الأميركية بهذه الطريقة، ومن دون أخذ وضع إيران في الاعتبار. كان الشعب يأمل في انفتاح اقتصادي ودولي منتظر منذ وقت طويل، ويرفض بالإجماع سياسة “الكيل بمكيالين”.
وتتساءل طهران بشكل خاص عن ضعف ردات الفعل، أو غيابها، تجاه الغزو العسكري التركي للأرياف الكردية في سورية، في حين أنّ وجود قوّات فيلق القدس المرتبطة بحزب الله والمليشيات الشيعية مدانٌ بصفته دليلاً على “طموحات الهيمنة الإيرانيّة”، وسط نسيان دور هذه القوات في الهزيمة العسكرية لـ “الدولة الإسلامية”. على الرغم من أنّ هذه النقطة كانت هدفاً ذا أولوية لحكومة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجديدة. فخلال محادثته في 5 مارس/ آذار 2018 مع لودريان، كان للأميرال علي شمخاني، وهو الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، في بزّته العسكرية، فرصة التذكير بأن إيران لا تملك حق شراء أسلحة حديثة، ولا يمكنها سوى التعويل على قوة ردع الصواريخ التي تصنعها. في حين أنّ الدول المجاورة من الجزيرة العربيّة تملك آلاف الصواريخ الممتازة (لا سيما الفرنسية منها) الموجّهة نحو المدن والمنشآت الاستراتيجية الإيرانية. بالنسبة لإيران، فإنّ الإنتاج الوطني للصواريخ ومحاربة القوات الجهادية التي تهدد المجال الوطني هي عناصر من أمنها القومي، غير قابلة للتفاوض. إنّ مسألة الساعة هي إدانة خطّة العمل الشاملة المشتركة من الولايات المتحدة، وكل خلط للأمور لا يمكن إلا أن يقود إلى الفشل، وهو وضع غير ملائم للزيارة الرئاسية الفرنسية إلى طهران.
من خلال الإسراع نحو نجدة الطلب الأميركي حول الصواريخ والأمن الإقليمي (اقرأ أمن إسرائيل) من دون الأخذ في الاعتبار التاريخ الإيراني الحديث، يحق لنا التساؤل ما إذا كان الرئيس الفرنسي لم يُنصح جيّداً، إذ يصعب فهم عدم التوفيق بين ضرورة المتابعة العسكرية أو الإقليمية، المفروغ منها، وربما أيضاً مراقبة السياسة الإيرانية الجديدة في ما يخص النووي، وأخذ الضرورات الإيرانية في مسألة الأمن والتنمية والسياسة الداخلية في الاعتبار.
توافق وطني إيراني
كيف يمكن التفكير لحظة أن قدامى المحاربين والعسكريين السابقين وحرس الثورة أو القوى
الرديفة خلال حرب العراق وإيران (1980-1988)، الذين يشكلون الغالبية العظمى للنخب ولجهاز الدولة الإيرانية، يمكنهم أن يقبلوا التفاوض حول هاتين المسألتين؟ هذا يعني تجاهل أنّهم عانوا من هجمات الصواريخ العراقية على المدن في الثمانينيات، من دون أن يستطيعوا الرد، وأنّهم يرون في الجهاديين والإرهاب شكلاً جديداً من أشكال السيطرة الإقليميّة – السياسية والدينية والإيديولوجية والعسكرية – للعربية السعودية ودول الخليج التي ساندت العراق عام 1980. التحدث مع إيران مع فرض عقوبات جديدة عليها أمر غير واقعي. هذا خطأ. أو ربما هو نجاح بالنسبة للذين، في فرنسا أو غيرها، لا يريدون اتفاقاً مستداماً مع الجمهورية الإسلامية أو مع إيران، ما دامت دولٌ خليجية عربية وإسرائيل لم تضمن مستقبلاً مستقرّاً.
أحداث الشغب التي شهدتها إيران خلال الشتاء الماضي جعلت محللين يتوقعون قرب “سقوط النظام”. ولكن يبدو على العكس أنّ هذه المظاهرات، المعبّرة عن الاستياء العميق للشعب، أكدّت وجود توافق وطني ضد إدارة ترامب التي ترفض رفع العقوبات، وضدّ فساد النخب، لكنّه توافقٌ على استقرار المؤسسات وضد التغيير المفاجئ للنظام، فالإيرانيون يعرفون ثمن الثورات؛ الإصلاحيون وأولئك الذين تظاهروا ضدّ إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في عام 2009، لم يلتحقوا بالمظاهرات الشعبيّة التي لم تكن أولويّاتها إيديولوجيّة ولا سياسيّة. لذا، فإنّ الذهاب مع الأوهام الأميركيّة حول تغيير سياسي سريع، تحت ضغط شعبٍ دُفع نحو التمرّد بسبب تأثير العقوبات المفروضة من الخارج، يعني الجهل بقوّة القوميّة الإيرانيّة. وأي نقاش أو تفاوض مصيره الفشل، إذا لم نأخذ في الاعتبار الحاجة الملحّة للحكومة الإيرانية، مهما كانت، إلى ضمان رفع حقيقي وسريع لجميع العقوبات وضمان الأمن المستدام لحدودها. والمفاجئ أنّ السياسة الفرنسية الجديدة تندرج (في الظاهر؟) في خانة حصر إيران في “محور الشرّ” الغالي على جورج بوش الابن.
مخرج من المأزق؟
من الوارد أن يكون بعضهم داخل الإدارة الفرنسية مغتبطاً بالصعوبات الكبيرة التي واجهها وزير الخارجيّة الفرنسي في طهران. وهم يريدون تأجيل سفر الرئيس ماكرون إلى إيران إلى أجل غير مسمّى، لكنّ الأمور لم تحسم بعد. فقد تحادث الرئيس مباشرة، وأكثر من مرة، مع نظيره حسن روحاني. وفي طهران كما في باريس، كثيراً ما تُطرح فكرة ميثاق إقليمي للأمن بين البلدان المطلة على الخليج، فالمأساة السورية قد بلغت ذروتها، وأصبحت تحتّم المرور السريع نحو إعادة بناء سياسية للمنطقة، وبالتالي نحو إعطاء ضمانات حقيقية إلى إسرائيل، حيث تواجه سياسة نتنياهو المعادية لإيران انتقادات مباشرة أكثر فأكثر. المهمّة ضخمة، خصوصا مع التصريحات المنحازة إلى إسرائيل والمعادية لإيران من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الولايات المتحدة، لكن كلّ شيء قابل للتغيّر.
في عام 2003، غداة حرب العراق التي عارضتها، بادرت فرنسا إلى الحوار مع إيران، وقد توجه وزير الخارجيّة الفرنسي آنذاك، دومينيك دوفيلبان، إلى طهران، برفقة نظيريه البريطاني والألماني. وأفضت المفاوضات في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2003 إلى اتفاق يمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، لكنّ واشنطن أفشلت هذه التسوية. ألا يمكن لإيمانويل ماكرون، بعد زيارته الولايات المتحدة الشهر الجاري، التوجّه إلى طهران، من أجل إطلاق مسار للخروج من هذا المأزق؟ لا يوجد بلد آخر عدا فرنسا يستطيع الإقدام على هذه المخاطرة الصعبة والضرورية.
برنار هوكارد
صحيفة العربي الجديد