أصبح قطاع غزة بفضل عوامل مكانية وجغرافية وبفضل عوامل الاحتلال ذلك المكان المؤهل لإعادة نبض الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الحياة. ففي غزة، ومنذ بدء مسيرات العودة منذ ثلاثة أسابيع، طوفان شعبي، وتحد يزداد عمقا للحصار القائم من الجهات الأربع. طوفان غزة تمرد فلسطيني على غلق غزة على سكانها، فحصار غزة مدجج بالموانع والأسلاك الشائكة والحراسة. وكما انبثق المخيم الفلسطيني الذي حوصر في الشتات في سنوات إنطلاق المقاومة من لبنان والأردن بعد حرب 1967 فإن غزة تنبثق من قاع شبيه حيث يمتزج عبره الألم بالحصار بالدماء وبالأمل والمستقبل. طوفان غزة يقع بين شعب تمتد جذور أغلبيته إلى عمق الأراضي التي قامت عليها دولة إسرائيل. لقد تمردت غزة، وهي بقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز 360 كيلومترا مربعا، على موت بطيء وهي في هذا تسعى لعبور نفق فرضته إسرائيل على الشعب الفلسطيني.
غزة مازالت تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، فإسرائيل التي سحبت جيشها شكليا من القطاع في 2005 أبقت إحتلالها بكل ما للكملة من معنى. لقد حولت إسرائيل غزة لسجن كبير لمليوني مواطن فلسطيني. في غزة السكان ممنوعون من السفر وممنوعون من الخروج من غزة لزيارة أقربائهم في الضفة الغربية وأقربائهم خارج غزة، او للسفر بهدف التعليم او العلاج أو للعمل. لقد تمادت إسرائيل منذ 2006 في فرض ممنوعاتها على المواد العادية كالبطاريات والأجهزة والكثير من المواد الغذائية ومواد البناء. وتمادى الإحتلال في جعل غزة بلا كهرباء معظم ساعات الليل والنهار. في غزة المدارس والمستشفيات تعاني نقصا شديدا. إن غزة المعزولة عن العالم لا تستطيع استقبال وفد طبي أو علمي او جامعي إلا بموافقة اسرائيلية. بنفس الوقت يمنع على غزة إستلام مخصصات موظفيها من السلطة الفلسطينية الا بموافقة إسرائيلية خاصة من خلال تحويل الضرائب. تمثل غزة قاع الإحتلال والمكان الذي نجد فيه أحد أبشع تعبيراته. وكما يستمر الإحتلال في فرض نفسه على سكان غزة تستمر المقاومة في سعي حثيث لخلق النقيض المقاوم.
وتحاصر إسرائيل قطاع غزة من البحر أيضا. فالسفن الإسرائيلية تمنع الصيادين الفلسطينيين من الصيد خارج مساحة محددة، وهذا تدخل في حق سكان غزة في ثروتهم السمكية، كما وتمنع إسرائيل السكان من استخدام البحر للتنقل او للتنزه أو للسفر. وفي غزة لم يسمح ببناء ميناء كما ولم يسمح الاحتلال بمطار. كل شيء في غزة مغلق ومقفل من الخارج ومن سلطات الإحتلال.
وغزة محاصرة أيضا من الجانب المصري، وهذا انعكاس للاحتلال الإسرائيلي. فقد أدت الضغوط الإسرائيلية والأمريكية لجعل مصر تحاصر غزة. فبفضل هذه الكماشة من الجانب الإسرائيلي كما والجانب المصري أصبح حصار غزة شاملا لكل الحدود. ورغم وقوع مفاوضات عدة بين حماس ومصر فأن الموقف لم يتغير والحصار من جانب مصر مستمر منذ مجيء الرئيس السيسي. إن معبر رفح المؤدي من غزة لمصر قلما يفتح وإن تم فتح المعبر لحركة المسافرين فأن ذلك لا يتجاوز ساعات محدودة.
ولو قلنا إن أحد أسباب الحصار عدم تعاون حماس مع الإحتلال وعدم تفكيكها للقوة العسكرية التابعة لكتائب القسام لا نكون قد أنصفنا الحقيقة، فالضفة الغربية حيث السلطة الفلسطينية التي تتعاون في جوانب أمنية عدة مع دولة الاحتلال، والتي لم تبن قوة عسكرية كما فعلت حماس في غزة، تعاني من مصادرة أراضيها ومن الاستيطان المستمر ومن الجدار الفاصل والموانع ومن الاعتداءات التي لا تتوقف. إن حصار إسرائيل للضفة كما هو للقدس المحتلة إعتداء يومي، فالسلطات العسكرية الاسرائيلية تعتقل الشبان العاملين على إيقاف الاستيطان والساعين للتصدي للإحتلال. الهدف الإسرائيلي في الضفة الغربية وفي القدس فرض الاستسلام على السكان من خلال السيطرة على حياتهم ومنع تطوير اقتصادهم والانقضاض على حقوقهم، الهدف الاسرائيلي واضح: خروج السكان من خلال الخنق الامني والاقتصادي.
إن حماس في غزة نتاج لسياسات دولة الإحتلال العقيمة. فحماس بالتحديد قبلت بانتخابات للسلطة الفلسطينية عام 2006، لكن الفيتو الأمريكي والإسرائيلي ورغم فوزها بانتخابات ديمقراطية بنسبة الأغلبية منع استقرار تلك الانتخابات. الحكومة الموحدة التي تم تشكيلها بين فتح وحماس لم يكتب لها النجاح بفضل الموقف الأمريكي والإسرائيلي والضغوط على حركة فتح لمنع الاستمرار في التجربة. منذ ذلك الزمن تطورت القطيعة، وسقطت التجربة عندما سيطرت حماس على غزة 2007 بينما إستمرت سيطرة فتح في الضفة. هذه الحالة انشأتها دولة الإحتلال بهدف تدمير الحركة الفلسطينية وفرض قطيعة ابدية بين أجزاء فلسطين.
إسرائيل لم تعد قادرة على إخفاء السؤال الذي يسأله العالم: ما الذي يجعل شاب فلسطيني من غزة في مقتبل العمر يسير بكامل إرادته بأسلوب سلمي نحو أسلاك شائكة تمنعه عن وطنه التاريخي وهو يعلم انه سيقتل؟ ماالذي يجعل هذا الشاب يحمل بيده علم بلاده وحلم العودة وحلم التخلص من سجنه بنفس الوقت؟ حتى الممثلة اليهودية الاسرائيلية (نتالي بورتمان) تساءلت وقررت بملء إرادتها مقاطعة حفل تكريمها في إسرائيل، وقد يكون ذلك بسبب كل المسائل التي تثيرها سياسة نتنياهو الأمنية تجاه الفلسطينيين ولكن بنفس الوقت تجاه اليهود والإسرائيليين من معارضي سياساته. محرقة غزة قد تمهد لوعي جديد في العالم، لمعرفة مختلفة عن الإحتلال الإسرائيلي وسلوكياته وسياساته وحصاره.
تؤكد مسيرات العودة أن الشعب الفلسطيني سيقاوم العقوبات الجماعية المستمرة بحقه بوسائل جديدة. يجب أن تسقط العقوبات المفروضة على غزة، ويجب أن ينتهي الحصار المفروض من الجهات الأربع والذي يعاقب كل الناس وكل السكان، ويجب أن يسمح للناس بالسفر والتحرك وزيارة أقاربهم في الضفة الغربية والذهاب للدراسة في نابلس ورام الله والتحرك كما يحلو لهم من وإلى غزة. يجب أن يفتح المجال لكل أنواع العلاج ويجب دعم المستشفيات والجامعات والمؤسسات في غزة. كما ويجب العمل على بناء ميناء ومطار يسهل الحياة والحركة لسكان غزة. معركة غزة هي معركة كل فلسطين، ولهذا تتضامن الضفة الغربية المحتلة مع غزة المحاصرة، كما يتضامن مع غزة عرب الداخل. إن شكل التضامن القادم من كل أجزاء فلسطين كما ومن الشتات الفلسطيني ومن أصحاب الضمير العربي والعالمي سيكون جليا في الأيام القادمة. مع ذكرى النكبة هذا العام في منتصف أيار/مايو 2018 سيصل الحراك لأعلى مراحله. حراك غزة إعصار جديد محمل بالتحرر ووسائل النضال المبتكرة.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي