آسيا الوسطي منطقة تتصارع عليها روسيا والولايات المتحدة والصين، وتبدو الآن تركيا بعيدة سياسياً عنها، على الرغم من التقارب اللغوي والثقافي والتاريخي، وربما يعود هذا إلى أن اهتمام صناع القرار في تركيا، خلال السنوات القليلة الماضية، ينصب على منطقة الشرق الأوسط، القريبة جغرافياً وتاريخياً ودينياً من تركيا.
بدأت العلاقات بين روسيا وتركيا تعود إلى طبيعتها بعد اللقاء الذي جمع الرئيس أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في سان بطرسبرغ، في أغسطس/آب 2017، ولعب رئيس كازاخستان، نور سلطان نازارباييف، دوراً مهماً في العمل وسيطا بين موسكو وأنقرة، ثم شكره بوتين في لقاء جمعهما في سوتشي.
واكتشفت أنقرة الفائدة من وجود علاقات ودية وثيقة للشعوب التركية مع الأعراق الأخرى في آسيا الوسطى، بما فيها الموجودة في كازاخستان، ولم تكن هذه العلاقات كاملة في السنوات الـ25 التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي.
وكانت حكومات دول آسيا الوسطى تنظر إلى تركيا دولة تنتمي للغرب، ويسيطر عليها التحرّر
الديموقراطي، وهو ما تعتبره دول المنطقة تهديداً محتملاً لها، وحالياً من شأن تحسين علاقات تركيا مع جيرانها في آسيا الوسطى، بالتوازي مع تحسين العلاقات مع روسيا وإسرائيل، مساعدتها على حل قضايا عالقة حالية مع الغرب، وتبدي دول آسيا الوسطى رغبة في توسيع العلاقات الاقتصادية مع تركيا.
سارت العلاقات التركية مع جمهوريات آسيا الوسطى بسلاسة، ففي عام 2009، دعت كازاخستان إلى تأسيس اتحاد للدول الناطقة بالتركية، يشمل أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركيا، وتتطلع أستانة لدور القيادة فيه. رفضت أوزبكستان وتركمانستان هذه الدعوة وقتها، ولم تعترض أنقرة على هذا، مدركة أن جمهوريات آسيا الوسطى، بعد خروجها من عباءة موسكو، لم تعد تريد أن يلعب أحد دور الأخ الأكبر عليها. ولكن خلال زيارة أردوغان أخيرا إلى طشقند، أعلن رئيس أوزبكستان الجديد ميزاييف انضمام بلاده لهذا التجمع الإقليمي.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990، لم تعد جمهوريات آسيا الوسطى تحت السيطرة الروسية، ما فتح الباب أمام تركيا لزيادة النفوذ في المنطقة، ولعل أبرز التحديات كان غياب الحدود المشتركة.
كانت موسكو الروسية في تلك الحقبة منشغلةً ببناء علاقات جديدة مع واشنطن، والاتحاد الأوروبي، ولم تكترث جدياً لنشاط تركيا في آسيا الوسطى. وأمل الاتحاد الأوروبي في أن تكون تركيا سبباً لنشر الديموقراطية ولتعزيز مبدأ السوق الحرة، ولم ينظر بقلق للنزعة القومية التركية، بينما لم يخف بعض بلدان آسيا الوسطى قلقه من الاستراتيجية التركية، لكن حاجتها إلى حجم كبير من الاستثمار (لم يعد يأتي من موسكو)، جعلها تدعم، ولو نظرياً، رؤية أنقرة.
وكانت تركيا قد أنشأت عام 1992 وكالة لتطوير العلاقات في مجال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، هدفها البلدان الشريكة. وفي 1993، أنشأت وكالة أخرى كانت مسؤولة عن ترويج الفن والثقافة التركية، ومقرها الرئيسي في أنقرة، ودعت دول آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان)، وكذلك أذربيجان، إلى الانضمام إلى هذه المنظمة. وبالإضافة إلى ذلك، انخرطت بعض بلدان آسيا الوسطى وتركيا في شبكات عديدة متطورة لنقل الطاقة إلى الغرب، مثل خط نابوكو.
كانت هناك مؤسسات تركية جديدة للتعليم العالي يجري تطويرها في آسيا الوسطى منذ عام 1990، حيث ساد في تلك الفترة رفض اللغة الروسية، وبدأت مراكز التعليم التركية تكتسب شعبية كبيرة، وكان بعض الطلاب يذهبون للدراسة في الجامعات التركية. وبدا واضحاً التأثير الفكري والثقافي لتركيا من خلال البث التلفزيوني في المنطقة، وظهر في أوزبكستان عام
1990 التلفزيون التركي على قدم المساواة مع الروسي، إلا أن المخاوف من النفوذ التركي ظهرت في أواخر التسعينيات، لا سيما في أوزبكستان التي تولت موقفاً أكثر صرامة تجاه تركيا في 1999، حين منحت أنقرة المعارضة الأوزبكية حق اللجوء السياسي إلى تركيا، كما لاقت النزعة القومية التركية لاحقا انتقادات شديدة في أوزبكستان، واستمرت علاقات أوزبكستان بتركيا فقط في المجال الاقتصادي، ما جعل أوزبكستان الحلقة المفقودة في علاقات أنقرة مع أقاربها التاريخيين في آسيا الوسطى. لكن الزيارات المتبادلة أخيرا، وعلى أعلى مستوى، تظهر أن كل شيء يتغير الآن، والمنطقة تشهد عودة أوزبكستان الراغبة في أخذ المكانة التي فارقتها حقبة على خريطة العالم، فمع رحيل إسلام كريموف عن هرم السلطة في طشقند، بات واضحا أن هناك توجهات جديدة لدى قادة أوزبكستان الجدد القدامى.
وتعتبر اليوم عوامل التشابه اللغوي والثقافي بين تركيا وتلك البلدان أولوية لأي تجمّع ووحدة بينها، بينما بات التشابه الديني عاملاً ثانوياً، وتشارك دول آسيا الوسطى في مشروع طريق الحرير الصيني، ما يوجِد حافزاً لعلاقات ودية، لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
لم تتراجع تركيا عن طموحها بأن تصبح من أكبر الدول تأثيراً داخل دول آسيا الوسطى، وتستمر في تحسين مواقعها وعلاقاتها مع الدول المجاورة. ومن هنا، ينبع اهتمامها بالاتحاد الأوراسي الاقتصادي، وكذلك بمنظمة شنغهاي للتعاون. وفي هذا السياق، سيعزز دعم بلدان آسيا الوسطى مواقف أنقرة في المحافل الدولية.
يبقى القول، بعد شراكتها الاستراتيجية مع عديد من دول القارة السمراء، أن من شأن تعزيز تركيا علاقاتها مع آسيا الوسطى أن يعزّز شروط تفاوضها مع أوروبا، ويجعل قدرتها أكبر على المناورة مع الغرب، ويزيد مناطق شراكتها مع روسيا.