أصبحنا الآن في الأسوأ بين كل العوالم الممكنة. لقد انتهكنا اتفاقا مع إيران، لكننا غير قادرين على فرض نظام جديد للعقوبات في مكانه. وبدلا من القيام باستثمار دبلوماسي، نقوم الآن بإصدار الأوامر بالصراخ والنباح
* * *
إذا استعرضنا ما حصل في العقود الأخيرة، فإن حقبة الهيمنة الأميركية –لحظة “القوة العظمى الوحيدة”، عندما كانت الولايات المتحدة بلداً “أساسياً- كانت وجيزة بشكل ملحوظ. وقد بدأت في العام 1991، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وربما وصلت ذروتها مباشرة قبل هجمات 11/9. لكنها كانت على مدى العقد الماضي –في عهد الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما- تسير ببطء وبلا توازن نحو النهاية. وحتى بينما كانت حاضرة، فإن هذه الهيمنة كانت في جزء منها لعبة دخان ومرايا. وقد اعتمدت على التصورات: الإيمان بالثروة الأميركية، والخوف من القوة العسكرية الأميركية، والإعجاب بالقيم الأميركية. كما اعتمدت أيضا على غياب المنافسين: انهيار الاتحاد السوفياتي، والضعف النسبي للصين.
ولكن، وفوق كل شيء، اعتمدت هذه الهيمنة على الرغبة الأميركية في الاستثمار: في الدبلوماسية، في القوة العسكرية –وانما في التحالفات فوق كل شيء. ومن خلال عقد الاتفاقيات ذات الفوائد المتبادلة مع الألمان والكوريين الجنوبيين، أصبح لدى الولايات المتحدة نفوذ أكبر بكثير مما كانت لتتمتع به بخلاف ذلك. وعن طريق إنشاء، ثم توسيع حلف الناتو، وبالاحتفاظ بالقوات في كوريا الجنوبية واليابان، أبقت الولايات المتحدة أجزاء من أوروبا وآسيا حرة في اختيار الديمقراطية، ومنفتحة على التجارة والتبادل التجاري. وفي أماكن أخرى، عملت الاتفاقيات والشراكات، وكذلك النقود والجيوش، على إعطاء الولايات المتحدة صوتا هائلا في التجارة والتبادل التجاري في العالم، بالإضافة إلى شؤون الحرب والسلام.
لا يعرف الرئيس ترامب أي شيء في التاريخ، وليست لديه أي فكرة عن كيف أصبحت الولايات المتحدة بلدا “أساسيا”، ناهيك عن كونها قوة عظمى. لكنه يعتقد، كما يبدو، بأنه يستطيع أن يحافظ على هذه المكانة، بل وأن يرتفع بها أيضاً، من دون القيام بأي استثمارات –دبلوماسية، أو عسكرية أو مالية- على الإطلاق. وفي هذا الأسبوع، جاءت الخطوط العامة لما يعنيه هذا –سمِّه “الهيمنة بسعر رخيص”- فجأة إلى دائرة التركيز الحاد.
ربما على نحو غير متوقع، كشف انسحاب ترامب المفاجئ من الاتفاق النووي الإيراني موقف أميركا الضعيف. لأننا انسحبنا –ولكن، ماذا بعد ذلك؟ في ظروف مختلفة –بعد استنفاد كل المفاوضات، وبعد الحصول على دليل على أن إيران تنتهك الاتفاق- ربما كان من الممكن إعادة تشكيل التحالف الدولي الذي فرض العقوبات بنجاح بالغ في المقام الأول. في ظروف أخرى، ربما كان من الممكن أيضاً تغيير الاتفاق: وهذا ما كان الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية يعرضانه خلال زيارتيهما الأخيرتين إلى واشنطن، ولو أن جهودهما ذهبت أدراج الرياح. في ظروف أخرى، ربما كان من الممكن حتى تهديد إيران عسكرياً –وهو ليس موقفاً أدافع عنه، لكنني أستطيع أن أتخيل كيف يمكن أن يحدث.
بدلاً من ذلك، أصبحنا الآن في الأسوأ بين كل العوالم الممكنة. لقد انتهكنا اتفاقا مع إيران، لكننا غير قادرين على فرض نظام جديد للعقوبات في مكانه. وبدلا من القيام باستثمار دبلوماسي، نقوم الآن بإصدار الأوامر بالصراخ والنباح. وكما لاحظنا، مباشرة بعد إعلان ترامب، أصدر السفير الأميركي في ألمانيا تهديدا على تويتر: “على الشركات الألمانية التي تقوم بأعمال تجارية في إيران أن توقف عملياتها على الفور”. ونتيجة لذلك، لا يتحدث القادة الأوروبيون الآن عن إيران. إنهم يتحدثون عن كيف يحمون شركاتهم من العقوبات الأميركية، وكيف يمكنهم أن يردوا عليها.
بدلا من القيام باستثمار عسكري في المنطقة، نقوم بحث الآخرين على القيام بذلك نيابة عنا. وفي مجاملة للحكومة الإيرانية، علمنا للتو بأن ترامب أرسل رسالة في الفترة الأخيرة إلى حلفائه العرب، والتي يطلب منهم فيها الالتزام بتقديم المزيد من الموارد العسكرية لحل مشكلات الشرق الأوسط. وهو شأن عادل بما يكفي –ولكن إذا لم تكن هذه مواردك، فإنك لا تستطيع أن تقرر كيف سيتم استخدامها. وفي الحقيقة، هناك مجموعة من الحكومات العربية المنخرطة مسبقاً في حروبفي الشرق الأوسط. السعودية تحارب مسبقا في اليمن، حيث ليس لنا الكثير من القول فيما يحدث هناك. وليست لنا أي سيطرة على ما يحدث في ليبيا أيضا، حيث تشارك مصر والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى مسبقا في حرب بالوكالة. وإذا ما انتشر الصراع إلى إيران، فإن الشيء نفسه سيكون صحيحاً.
إلى أي مدى يمكن أن يصل دونالد ترامب بالصراخ والتحريض، وبالتحدث عن كم هو حلف الناتو أو العالم العربي “مدينان” لأميركا؟ إلى أي مكان يستطيع أن يصل من دون الاستثمار في الحلفاء، في الدبلوماسية، وفي الانخراط العسكري؟ ربما بعيداً جداً. كانت تلك اللحظة من الهيمنة الأميركية مثيرة للإعجاب حقاً، وهناك الكثير من الأماكن التي لم تتلاش فيها الهالة بعد. سوف يستغرق الأمر الأوروبيين بعض الوقت، ناهيك عن الروس والصينيين، حتى يعثروا على طريقهم للالتفاف حول العقوبات الأميركية على طهران، ويبتكروا طرقاً بديلة للاستثمار، ولخلق مصادر جديدة للائتمان خارج النظام المصرفي الدولي الحالي. سوف يتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن تدرك الدول معادة التسليح في الشرق الأوسط أنه لم يعد هناك أي سبب –ليس بعد الآن- لاستشارة حكومة الولايات المتحدة قبل أن تذهب إلى الحرب. وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تصبح السياسة الاقتصادية الأميركية شاذة جداً إلى درجة يقرر معها الآخرون أن لا يحتفظوا بالدولار ليكون عملتهم الاحتياطية، وأن لا يحتفظوا بمكان للأميركيين على قمة الطاولة.
ربما ما تزال هناك الكثير من السنوات التي ستأتي قبل أن يلاحظ الأميركيون تماماً أن “الهيمنة بثمن رخيص” تعني أنه لم يعد لديهم بعد الآن الكثير من القول فيما يحدث خارج حدودهم. لكن تلك اللحظة آتية حتماً، عاجلاً أم آجلاً. وربما يكون ترامب قد سرّع وصولها فحسب.