الدبلوماسية الدولية النشطة وحدها القادرة على وقف انزلاق الشرق الأوسط إلى هاوية الانتشار النووي. وحتى في غياب الولايات المتحدة، تستطيع الدول المتبقية الموقعة على خطة العمل المشتركة الشاملة إنقاذ المبادئ المركزية للاتفاق من خلال دعم قادة إيران المعتدلين في تخفيف آثار العقوبات الجديدة. وبوسع مؤيدي الاتفاق المتبقين أن يساعدوا أيضاً على نزع فتيل الأزمة على حدود إسرائيل الشمالية، حيث تدور بالفعل اشتباكات مباشرة بين قوات إسرائيلية وإيرانية.
* * *
تل أبيب – لم يكن القرار الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران الذي أبرم في العام 2015 أول خروج له من اتفاقية دولية رئيسية. فمن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ إلى اتفاق باريس للمناخ، أصبح تمزيق الأطر الدولية المتعددة الأطراف من اختصاص ترامب.
ولكن، حتى بمعايير ترامب، يُعَد الخروج من خطة العمل الشاملة المشتركة، كما يُعرَف الاتفاق مع إيران رسميا، قراراً شديد التطرف. والآن، يقارن بعض المراقبين هذه الخطوة بالمحاولة المشؤومة التي بذلها الرئيس جورج دبليو بوش لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال شن الحروب في أفغانستان والعراق. ومثله كمثل المغامرات العسكرية التي خاضها بوش، ينطوي نهج ترامب في التعامل مع المنطقة على مخاطر هائلة، خاصة وأنه دفن كل ما تبقى من التحالف عبر الأطلسي في الهوة التي تفصل بين سياسات القوة الأميركية وتأكيد أوروبا على الدبلوماسية.
الواقع أن تحرك ترامب لا يقف عند كبح جماح أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها إيران، بل يمتد ليستهدف تغيير النظام. ويبدو أنه يأمل في تحقيق هذا الهدف من خلال تجفيف الموارد الاقتصادية والاستراتيجية لدى الجمهورية الإسلامية. ومن خلال إعادة فرض العقوبات، يتوسل ترامب إلى الشعب الإيراني -الذي سيتحمل هو وطأة آلام العقوبات- لكي ينهض ويتمرد على حكومته.
بعد القرار الذي اتخذه ترامب بإلغاء خطة العمل المشتركة الشاملة، أصبحت إيران في مواجهة خيارين لا ثالث لهما، وكل منهما أسوأ من الآخر. ويتلخص الأول في إعادة التفاوض على الاتفاق مع بقية الموقعين -الصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي. والواقع أن الرئيس الإيراني حسن روحاني ألمح بالفعل إلى هذا الاحتمال، لكن قدرته على الإنجاز ربما تصبح محدودة عندما تعود العقوبات. وإذا اضطرت الشركات الأوروبية إلى الاختيار، فإنها سوف تضحي بأعمالها في إيران في سبيل الحفاظ على قدرتها على الوصول إلى السوق الأميركية. ومع تعثر الاقتصاد الإيراني، سيسعى الإيرانيون إلى توزيع اللوم.
ولا يقل الخيار الثاني سوءاً. فقد يستسلم الإصلاحيون للمتشددين في إيران، فينتهي الأمر إلى إلغاء خطة العمل المشتركة الشاملة بالكامل، واستئناف الأنشطة النووية، والتعجيل باستكمال برنامج الصواريخ الباليستيكية. وهذا من شأنه أن يضمن قيام إسرائيل بشن ضربة استباقية للمرافق النووية في إيران -بمباركة أميركا، إن لم يكن بالتواطؤ معها. عند هذه النقطة، لن تشعر إيران بأي حرج في إعادة نشر وكلائها ضد إسرائيل، بدءاً بحزب الله في لبنان المجاورة. وقد يُفضي هذا إلى نزاع أوسع نطاقاً وأشد تدميراً، والذي يضم حلفاء آخرين للولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وغيرها من القوى العربية السُنّية.
من المؤسف أن النتيجة الواجب تجنبها بأي ثمن هي ذاتها التي يبدو أن القيادة الإسرائيلية حريصة على جلبها. ففي الشهر المنصرم، اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إيران بخيانة الاتفاق النووي. وفي ذلك الوقت، استُقبِل العرض الغريب الذي قدمه نتنياهو -باللغة الإنجليزية- بالسخرية والاستهزاء في الغرب. والآن يبدو وكأنه كان افتتاحية تمهيدية.
الواقع أن فريق نتنياهو-ترامب التبادلي -والمسؤول إلى حد كبير عن إحباط الاتفاق النووي- يشكل تحالفاً انفجارياً بين شخصين نرجسيين سمحا للسياسات المحلية المختلة بإملاء سلوكياتهما الدولية. وفي حالة ترامب، يبدو أن الهدف يتلخص في التفكيك المنهجي لإرث الرئيس باراك أوباما، ليس لأي سبب آخر غير الوفاء بوعود حملته الانتخابية (والتي يبدو أنها لم تنته قط).
من ناحية أخرى، يعشق نتنياهو صورته المصقولة بعناية بوصفه مخلص الشعب اليهودي من محرقة ثانية. وفي ظل حظوظه السياسية التي خيمت عليها سحب المتاعب القانونية التي قد تؤدي إلى توجيه الاتهام إليه، أصبح التحريض على الحرب استراتيجية للفوز بإعادة الانتخاب. والواقع أن دعم ترامب في إسرائيل بلغ مستوى غير مسبوق من الارتفاع بعد القرار الذي اتخذه بالانسحاب من خطة العمل المشتركة الشاملة، وفي أعقاب الضربة العسكرية الإسرائيلية المكثفة ضد أهداف إيرانية في سورية. كما تساعد تكتيكات نتنياهو على تشتيت الانتباه الدولي بعيدا عن المشكلة الفلسطينية، التي تقترب من ذروتها مرة أخرى.
تملك إسرائيل أقوى جيش في الشرق الأوسط، ولكن لا ينبغي السماح لنتنياهو باستخدام هذا الجيش لتحقيق مكاسب سياسية خاصة. وقد خاضت إسرائيل آخر حرب مع دولة أخرى في العام 1973، وما تزال صدمة تلك المعركة باقية. وعلاوة على ذلك، لم تقدم القوة العسكرية وحدها أي شيء يُذكَر لحماية حدود البلاد. ولم تؤد “عقيدة بيغن”، أو استراتيجية الضربات الوقائية التي تشنها إسرائيل للإبقاء على احتكارها الإقليمي للأسلحة النووية، إلى تناقص عدد الهجمات الصاروخية التي يشنها عليها خصوم إسرائيل المدعومين من إيران.
إن الدبلوماسية الدولية النشطة وحدها القادرة على وقف انزلاق الشرق الأوسط إلى هاوية الانتشار النووي. وحتى في غياب الولايات المتحدة، تستطيع الدول المتبقية الموقعة على خطة العمل المشتركة الشاملة إنقاذ المبادئ المركزية للاتفاق من خلال دعم قادة إيران المعتدلين في تخفيف آثار العقوبات الجديدة. وبوسع مؤيدي الاتفاق المتبقين أن يساعدوا أيضاً على نزع فتيل الأزمة على حدود إسرائيل الشمالية، حيث تدور بالفعل اشتباكات مباشرة بين قوات إسرائيلية وإيرانية.
للتوصل إلى اتفاق جديد يضمن استمرار نزع السلاح النووي الإيراني، ووضع برنامجها لتصنيع الصواريخ الباليستيكية تحت المراقبة، وتشجيع سياسة خارجية أقل عدائية، لا بد من إزالة كل من العقوبات ومحاولات تغيير النظام الإيراني من على الطاولة. وسوف يسمع ترامب الرسالة نفسها على الأرجح من نظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون، قبيل انعقاد لقاء القمة بين الزعيمين في حزيران (يونيو) المقبل.
من عجيب المفارقات أن هذه على وجه التحديد هي “الصفقة الكبرى” التي اقترحتها إيران على إدارة بوش في أيار (مايو) من العام 2003. وقد رفض بوش ذلك العرض، متعهداً بعدم التحدث مع أي عضو في “محور الشر”. وعلى حد تعبير نائب الرئيس ديك تشيني في الإشارة إلى كوريا الشمالية -وهي عضو آخر في ذلك “المحور” الوهمي- فإنه “لا يتفاوض الأميركيون مع الشر؛ نحن نهزم الشر”.
ولكن، من خلال التخلي عن الدبلوماسية لصالح قعقعة السيوف، صفقت إدارة بوش الباب في وجه أي حل مع إيران. واليوم، بينما يعتنق ترامب التكتيكات نفسها، من الصعب أن نفهم كيف قد تأتي النتيجة مختلفة بأي حال من الأحوال.
شلومو بن عامي
الغد