تحدث الرئيس السوري بشار الأسد عن الحرب الأهلية الدموية التي تشهدها بلاده قائلاً إن “الأمور تتحرك الآن في الاتجاه الصحيح” وإن “الأسوأ أصبح وراءنا”. وقد ذهب كبار المسؤولين من روسيا وإيران و«حزب الله» والأمم المتحدة ودبلوماسيون أمريكيون سابقون إلى أبعد من ذلك، معلنين أن الأسد هو المنتصر وحثوا جماعات المتمردين والحكومة الأمريكية إلى التصالح وقبول هذا “الواقع” غير المستساغ. غير أن تحليلاً لديناميكيات الصراع في المنطقة يظهر مشهداً أكثر تعقيداً، مما يشير إلى أن معاناة سوريا بعيدة عن الانتهاء وأن مكاسبها العسكرية قد تكون أكثر هشاشة مما تبدو عليه.
تعزيز النصر بقوات غير كافية
تسيطر القوات الموالية للنظام حالياً على أكثر من 50 في المائة من الأراضي السورية وما بين نصف وثلثي سكانها. لكن سيطرة النظام على العديد من المناطق لا تزال غير مؤكدة بسبب غياب القوات الموالية والكفوءة والقدرة المؤسسية. وفي حين تمكنت القوات الموالية للنظام من “تطهير” العديد من المناطق التي استعادتها، إلا أنها مرهقة، لذلك يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكانها “الاحتفاظ” بها. (وبالفعل، شن تنظيم «الدولة الإسلامية» مؤخراً هجمات لاذعة في مناطق – مثل تدمر ودير الزور – كان قد تم “تطهيرها” مراراً من قبل القوات الموالية للنظام). إن نقل المقاتلين المتمردين وعائلاتهم من المناطق المستعادة إلى محافظتي إدلب ودرعا – في إطار ما يسمى باتفاقيات المصالحة التي هي في الواقع أبعد ما يكون عن هذا المفهوم – سيسهّل مهمّة التطهير هذه، لكن القوات الموالية للنظام ربما لا تزال تواجه مقاومة مسلحة متجددة في هذه المناطق من قبل جيل جديد من المعارضين. وطالما بقيت القوات الأمريكية في شمالي شرقي سوريا وفوق [أجواء تلك المناطق]، فبإمكانها منع إعادة استحواذ النظام على ذلك الجزء من البلاد – الذي يشمل بعض أهم المناطق المنتجة للنفط والمناطق الزراعية الأكثر إنتاجية.
وربما لدى الجيش السوري ما بين 10 و20 ألف جندي جاهزين للعمليات الهجومية في مختلف أنحاء البلاد. وقد تمّ تأمينهم بشكل أساسي من “الفرقة المدرعة الرابعة” و”فرقة الحرس الجمهوري” وقوات النمر“ وعناصر من “قوات الدفاع الوطني”. أما سائر أفراد الجيش السوري – بمن فيهم بقايا عدة فرق من الجيش النظامي ومعظم “قوات الدفاع الوطني”، والفيلقين الرابع والخامس المشكلين حديثاً، و”قوات الدفاع المحلية” (المؤلفة من ميليشيات مختلفة موالية للنظام)، وأجهزة الاستخبارات التابعة للنظام – فربما يتراوح عددهم الإجمالي بين 100 و150 ألف عنصر مسلح. والكثير منهم من المجندين والمتطوعين من كافة الأعمار لم يتلقوا تدريباً جيداً، إلى جانب عناصر ميليشياوية مساعدة مسؤولة عن الأمن المحلي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. ولا يمكن الاعتماد عليهم لتنفيذ عمليات خارج مناطقهم.
ويؤمّن مقاتلون من «حزب الله» اللبناني (6,000–8,000 مقاتل)، وإيران (2,000 مقاتل)، ومقاتلون شيعة من العراق وأفغانستان وباكستان (10,000– 20,000 مقاتل)، وفرقة روسية برية وجوية صغيرة نسبياً، القسم الأكبر من قوة النظام القتالية الهجومية. وتمكنت قوت موالية للنظام من الاستعانة باحتياطي كبير من المقاتلين الشيعة الأجانب لتعزيز جهودها – في حين انخفض تدفق المقاتلين الأجانب السنّة المناهضين للنظام إلى حد كبير نتيجة تشديد الرقابة على الحدود والهزائم التي مني بها تنظيم «الدولة الإسلامية» في ساحة المعركة. وعلاوةً على ذلك، تخضع العديد من المناطق حالياً لسيطرة قوات أجنبية موالية للنظام، إلى جانب جماعات من المتمردين وقبائل “متصالحة” يعتبر وفاؤها للنظام مشروطاً. وإذا اضطرت هذه القوات والمقاتلون الأجانب الموالون للنظام إلى العودة إلى مواطنهم الأصلية، أو إذا غيّرت جماعات المتمردين والقبائل المتصالحة مرة أخرى ولاءها، فسيتعرض النظام لضغوط شديدة للاحتفاظ بالعديد من المناطق التي يسيطر عليها حالياً. كما يتوجب على «حزب الله» اللبناني الموازنة بين رغبته في تقليص وجوده في سوريا وإعادة مقاتليه إلى لبنان مع الحاجة المستمرة إلى بقائهم في سوريا.
وتقوم القاعدة العامة التي يعتمدها المخططون العسكريون على ضرورة وجود 20 جندياً لكل ألف مدني خلال عمليات ضمان الاستقرار. ويعادل ذلك قوة تتألف من 200,000–240,000 جندي لكي يتمكن النظام من السيطرة على ما بين 10 و12 مليون شخص يعيشون حالياً وفقاً للتقارير في المناطق الخاضعة له نوعاً ما. وهذا أكثر بكثير من عدد العناصر التي هي حالياً بتصرف القوات الموالية للنظام. لكن بعد مرور سبع سنوات على الحرب، أصبحت قوات المتمردتين مستنزفة ومرهقة أيضاً – وتشهد انقسامات لم تعهدها سابقاً. وبالفعل، قد لا تكون قادرة بعد الآن على المقاومة بشكل مستدام في معظم الأماكن.
فضلاً عن ذلك، لطالما عملت القوات الموالية للنظام واضعةً نصب عينيها هدفاً مشتركاً أكبر. فقد استفادت من العصبية القوية (أي التكافل ضمن الجماعة) في المجتمع العلوي وحلفائه – بمن فيهم الشيعة والمسيحيون وعدد ضئيل من داعمي النظام السنّة – ومن درجة تواؤم مصالح إيران و«حزب الله» وروسيا في سوريا. وفي المقابل، ساهم التعصب المحلي المتنوع في أوساط المعارضة والأجندة المتنافسة لمختلف الجهات الداعمة الأجنبية في تعميق انقسام المعارضة. وقد فاقمت هذه الاتجاهات ميول الضراوة وقتل الأشقاء للجماعات السلفية والجهادية التي تحارب النظام، مما أدى في الكثير من الأحيان إلى إراقة الدماء بشكل هائل في صفوف المعارضة. وبالتالي، قد تكون القوات الموالية للنظام قادرة على الاحتفاظ بمعظم ما استعادته من المتمردين – على الأقل في الوقت الحالي.
علاوة على ذلك، لم ترسل إيران أبداً أكثر من جزء من نسبة مئوية من قوتها البرية المؤلفة من 450,000 عنصر للقتال في سوريا (ويشمل هذا العدد الإجمالي 100,000 في «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، و 350,000 في «أرتش»، أو الجيش النظامي). كما أنها لم ترسل قط سوى الحدّ الأدنى المطلوب من المقاتلين لإبقاء الأسد في السلطة – لذا فهي “لم تستنزف” أبداً قدرتها على مساعدة النظام.
يذكر أن المستشارين والمقاتلين من «الحرس الثوري الإسلامي» في سوريا كانوا على استعداد لتحمل المخاطرة نوعاً ما، في حين أن صناع القرار في طهران كانوا يعزفون باستمرار عن المخاطرة. وإذا حظي «الحرس الثوري» بسلطة أكبر في صنع القرار في طهران، فقد ترسل إيران قوات إضافية إلى سوريا لتمكّن نظام الأسد من القضاء على أعدائه المحليين – على الرغم من أن ذلك قد يثير بدوره ردود فعل ساخطة من قبل الإيرانيين الذين يعارضون الدور الذي تضطلع به بلادهم في سوريا. وبالتالي، لا يجب أن تتفاجأ الحكومة الأمريكية إذا ما عززت إيران موقعها في سوريا – كما فعلت في أيلول/سبتمبر 2015، عندما زادت عناصرها لفترة وجيزة بالتزامن مع تدخل روسيا في البلاد للمساعدة على وقف هجوم المتمردين الذي هدّد صمود نظام الأسد.
ديناميكية الحرب المدنية
سيواجه نظام الأسد العديد من التحديات الإضافية التي جرى تحديدها في التقارير الأكاديمية حول الحروب الأهلية. أولاً، من المرجح أن تزداد معاناة البلدان، التي تحملت حرب أهلية، من الانتكاس. وسوريا هي مثال على ذلك: فقد شهدت تمرداً مضاداً لفترات طويلة من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» بين عامي 1976 و1982، لذلك فهي تعاني الآن من حرب أهلية ثانية. وكانت دول أخرى في المنطقة قد شهدت حالات متسلسلة من التمرد والانتفاضات والحروب الأهلية أيضاً، بما فيها، اليمن (1962 – 1970، 1994، 2004 – إلى الوقت الحالي) والعراق (1961 – 1970، 1974 – 1975، 2006 – 2010، 2014 – 2017). وتشمل دول المنطقة الأخرى التي شهدت حروباً أهلية: الأردن (1970-1971)، لبنان (1975-1990)، والجزائر (1991-2002). ويشعر العديد من اللبنانيين والأردنيين بالقلق من أن تؤدي التوترات الإقليمية أيضاًستؤدي إلى زعزعة استقرار بلدهما مجدداً.
ثانياً، إن الحروب الأهلية التي تنتهي بانتصار عسكري واضح من جانب واحد هي أقل احتمالاً بأن تؤدي إلى تجدد الصراع من التسويات التي تترك القدرات العسكرية الكبيرة سليمة. وليس من الواضح ما إذا كان نظام الأسد قادراً على تحقيق انتصار مطلق؛ وتبقى جيوب المتمردين قائمة في محافظتي إدلب ودرعا وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال شرق البلاد، وتحظى بعض هذه المناطق بحماية قوى أجنبية. علاوةً على ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت انتصارات النظام ستؤدي إلى فترة مطوّلة من الهدوء، كما حصل بعد انتصارات الأرض المحروقة التي حققتها سوريا في حماة (1982) وروسيا في غروزني، أو ما إذا كانت ستشبه انتصار العراق غير المكتمل على تنظيم «القاعدة في العراق» بين 2007 و2011، الأمر الذي مهد الطريق أمام عودته كتنظيم «الدولة الإسلامية» في 2013-2014 رداً على سياسات الحكومة الصارمة.
وستعتمد النتيجة في سوريا، كما في أي دولة أخرى، جزئياً على مدى إرهاق الشعب السوري وقبوله بالهزيمة، وعلى فعالية الجهاز الأمني الداخلي للنظام. وحتى في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، قد يكون “نصره” غير كامل؛ ففي حين أن بعض المناطق قد تكون هادئة، قد تبقى أخرى مثيرة للمتاعب. كذلك، إن استخدام الحكومة التركية لعناصر من «الجيش السوري الحر» المناهض للنظام في قتالها ضد «حزب الاتحاد الديمقراطي» السوري الكردي في شمالي غربي سوريا يضمن على الأقل صمود جزء من المعارضة ضد الأسد.
أخيراً، أظهرت التجربة أن إرساء الاستقرار في دولة هشة هو أكثر صعوبة بكثير إذا كانت الدول المجاورة تعمل على إحباط هذه الجهود. وخير دليل على ذلك هو عدم قدرة الأمريكيين على تحقيق الاستقرار في أفغانستان منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2011 نتيجة الدعم والملاذ الآمن الذي توفره باكستان لحركة “طالبان” الأفغانية، والصعوبة التي واجهها الجيش الأمريكي في إرساء الاستقرار في العراق بعد عام 2003 في وجه الجهود السورية والإيرانية المعاكسة. وحالياً، لا يسعى أي من جيران سوريا إلى زعزعة استقرارها؛ وإذا تغير هذا الواقع، قد تتعقد جهود النظام الرامية إلى إحلال السلام في البلاد بشكل كبير. وفي المقابل، من شأن تدهور الوضع الأمني في أي دولة مجاورة لسوريا أن يخلّف تداعيات وخيمة عليها أيضاً؛ على سبيل المثال، قد يؤدي نهوض تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق إلى عودته بقوة إلى سوريا.
ديناميكية الصراع الإقليمي
من المرجح أن تؤدي ديناميكية “الفعل- رد الفعل” التي غالباً ما أدت إلى تقلبات متأرجحة في ميزان القوى في المنطقة إلى تحديد مستقبل الحرب الأهلية السورية، فضلاً عن نوع تدخلات القوى العظمى التي رسمت معالم صراعات أخرى اندلعت حديثاً في الشرق الأوسط. فقد ضمنت أن: (1) الانتصارات العسكرية سريعة الزوال في معظم الأحيان وكثيراً ما يتم نقضها من قبل القوى الاجتماعية – السياسية التي تطلقها؛ (2) الحروب غالباً ما تسببت في تداعيات غير مقصودة تكون مزعجة بقدر المشاكل التي كان من المزمع أن تحلها؛ و(3) الحروب نادراً ما تكون حاسمة – وفي أغلب الأحيان تؤدي جذوة نار إلى حرب أخرى عاجلاً أو آجلاً.
وهكذا، بعد انتصار إسرائيل المذهل في حرب حزيران/يونيو 1967، أطلقت مصر – التي سرعان ما أعاد الاتحاد السوفييتي تسليحها – حرب الاستنزاف المصرية – الإسرائيلية بين عامي 1968 و1970. كما حفزت حرب 1967 إلى ظهور المنظمات المحاربة الفلسطينية، مما مهد الطريق أمام الحربين الأهليتين في الأردن (1970-1971) ولبنان (1975-1990). وأدت الحرب العربية-الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973 – التي تمّ شنها للتخلص من تداعيات حرب 1967 – إلى جعل اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية (1979) ممكنة، لكنها أدت أيضاً إلى تعزيز القدرات العسكرية للجيش العراقي بدعم من البترودولار، مما مكّن العراق من غزو إيران عام 1980 وإشعال حرب الثماني سنوات الباهظة التي أعقبت ذلك الغزو.
لقد انتهت الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988) دون نتيجة حاسمة، لكن العراق ادعى النصر. وحاول معالجة الديون الخارجية التي فاقت قيمتها 100 مليار دولار التي تراكمت خلال الحرب من خلال غزو الكويت (1990) والاستحواذ على احتياطياتها النفطية، مما وضعه في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة. وشكل تحرير الكويت عام 1991 بفضل ائتلاف بقيادة الولايات المتحدة النقطة الأهم في حظوظ أمريكا في الشرق الأوسط، ولكن في غضون سنوات قليلة، تسببت العقوبات الأمريكية على العراق واحتوائها له بردود فعل ساخطة معادية للولايات المتحدة في معظم أنحاء المنطقة. وعلاوةً على ذلك، ساعد الوجود العسكري الأمريكي في السعودية بهدف فرض منطقة حظر جوي جنوبية في العراق على تحفيز صعود تنظيم «القاعدة» الذي نفّذ في ما بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، مما أدى بدوره إلى غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (2001) والعراق (2003).
وقد أدت الفترة الفاشلة التي أعقبت غزو العراق إلى صعود تنظيم «القاعدة في العراق» واندلاع حرب أهلية سنّية – شيعية، مما ساهم في الاستقطاب الطائفي في العراق، ومن ثم في المنطقة. ومن المفارقات، أن شبكة الدعم التي أسسها نظام الأسد في سوريا لدعم الجهاديين السنّة الذين قاتلوا القوات الأمريكية في العراق انضمت فيما بعد إلى التمرد ضد النظام ومن ثم تولت قيادته. علاوةً على ذلك، أدى عدم انخراط أمريكا في المنطقة بعد عام 2011 إلى دفع حلفائها الأتراك والخليجيين إلى دعم بعض الجماعات المتطرفة التي تحارب نظام الأسد وتسهيل بروز تنظيم «الدولة الإسلامية». كما فتح ذلك الباب أمام عودة روسيا إلى المنطقة.
لقد خلّفت الحرب الأهلية السورية حتى الآن مجموعة من التداعيات المزعزعة للاستقرار في المنطقة وخارجها، وقد تؤدي إلى اندلاع المزيد من الصراعات. وفي الواقع، على الرغم من أن الحرب الأهلية السورية لم تنتهِ بعد، إلّا أنّ “الحروب ما بعد الحرب” قد بدأت بالفعل حيث يحارب الأتراك أكراد سوريا، وتتصادم الولايات المتحدة بين الحين والآخر مع القوات الموالية للنظام والقوات السورية، وانخرطت إسرائيل في صراع تتصاعد حدته مع إيران ولو أنه لا يزال هامشياً. ومن المرجح أن يتسع نطاق التصادمات بين الأتراك والأكراد السوريين وتزداد حدته إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها البالغ عددها 2000 جندي من شمالي شرقي سوريا. ومن شأن عودة القوات الموالية للنظام إلى المناطق ذات الأغلبية السنّية، لا سيما بالتزامن مع سحب القوات الأمريكية من سوريا، أن تحفز عودة تنظيم «الدولة الإسلامية».
ويزداد احتمال اندلاع صراع بسبب الثقة الحديثة العهد بين نظام الأسد وحلفائه من «حزب الله» وإيران. ومن المرجح أن تستعمل سوريا الأسلحة الكيماوية مجدداً، وربما يدفع ذلك بالولايات المتحدة إلى توجيه ضربات جديدة لفرض خطها الأحمر. وكما تسببت هزيمة السوفييت على يد المجاهدين الأفغان إلى ظهور جيل جديد من الجهاديين السنّة الباحثين عن انتصارات إضافية، فقد تدفع انتصارات الجهاديين الشيعة التابعين “لمحور المقاومة” في لبنان (2000) والعراق (2011) وسوريا (من 2015 حتى الآن) بـ «حزب الله» وإيران – العازمين على تحويل سوريا إلى منصة لإبراز القوة في المشرق، ومواصلة الصراع مع إسرائيل – إلى المبالغة في ردود فعلهما تجاه إسرائيل أو الولايات المتحدة. وأخيراً، في جزء من العالم يشكل فيه العرب السنّة 75 في المائة [من السكان]، من الصعب التصديق بأنه سيتمّ قبول هذا الدور الإيراني الموسع بشكل دائم؛ وبالأحرى هو صيغة لإبقاء عدم الاستقرار قائماً.
ديناميات النظام
بينما يؤمن النظام بأن أسوأ ما في الحرب الأهلية السورية هو من ورائه، إلّا أنّ التوترات والانقسامات داخله يمكن أن تبرز إلى الواجهة. فقد أسفرت الحرب الأهلية عن إنشاء نخب جديدة مضادة تابعة لأمن النظام في أوساط “قوات النمر“ و”قوات الدفاع الوطني” و”قوات الدفاع المحلية”، وقد يطالب قادة هذه المنظمات بحصة أكبر من غنائم الحرب وحوكمة ما تبقى من سوريا. وقد يتنامى الاحتمال الدائم بتصاعد وتيرة العنف في أوساط النخبة الأمنية العنيفة التابعة للنظام – خاصة إذا قام الأسد وإيران بجر سوريا إلى حرب مدمرة مع إسرائيل قد تؤدي إلى وقوع خسائر فادحة في صفوف القوات الموالية للنظام.
وطوال الحرب الأهلية، وحّدت النخبة الأمنية السورية صفوفها وتجنبت بشكل عام العنف المدمر ذاتياً، على الرغم من أن التوترات والخصومات الشخصية والعائلية والقبلية والإقليمية لطالما مزقت هذه الجماعة. ولربما كانت الأزمة التي أعقبت الحرب الأهلية السابقة في سوريا، التي اندلعت بعد إصابة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد بنوبة قلبية أواخر عام 1983، هي السابقة الأكثر صلة بالموضوع. وخوفاً من وقوع انقلاب قد ينظمه شقيق الرئيس الأصغر رفعت الأسد، الذي كان قائد “سرايا الدفاع”، وحدة الحرس الرئيسي للنظام – التي اضطلعت بدور رئيسي في قمع التمرد الذي وقع بين 1976-1982 – أوعز ضباط بارزون في الجيش إلى وحداتهم بالسيطرة على مواقع في دمشق وحولها وإغلاقها لإثباط أي محاولة انتزاع للسلطة. ولم يتمّ نزع فتيل الأزمة العسكرية الناتجة إلا عندما تعافى حافظ الأسد، وأرسل رفعت إلى المنفى وقام بحلّ الوحدات العسكرية والميليشيات التي كانت تحت قيادته.
ويؤدي هذا التقييم الموجز للحرب الأهلية في سوريا إلى عدة استنتاجات.
أولاً، إن الحرب الأهلية في سوريا ربما لم تنته بعد. فقد تؤدي عودة القوات الموالية للنظام إلى المناطق ذات الأغلبية السنية إلى تجدد المقاومة، في حين أن الصراعات المستمرة بين الأتراك والأكراد، وإسرائيل وإيران، والولايات المتحدة ونظام الأسد، قد تتداخل أو تتصاعد وتيرتها بطرق غير متوقعة. وهكذا، فإن الغزو التركي لبلدة عفرين في شمال غرب سوريا قد أبعد المقاتلين الأكراد من المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في الشرق، مما أدى إلى عرقلة العمليات العسكرية هناك. وعلى نحو مماثل، قد تؤدي الحرب بين إسرائيل وإيران (وربما «حزب الله») إلى إلحاق أضرار كبيرة بالقوات الموالية للنظام، وتخفيف قبضتها على المناطق التي استعادتها من قوات المتمردين، مما يمنح المعارضة أملاً جديداً.
إن العوامل التي غالباً ما جعلت من الصعب على الولايات المتحدة وحلفائها تعزيز الانتصارات العسكرية في الشرق الأوسط، قد تجعل أيضاً من الصعب على خصوم الولايات المتحدة القيام بذلك، مما يوفر لواشنطن فرصاً للعمل مع حلفائها لتقويض هذه المكاسب العسكرية أو الحدّ منها. لكن مثل هذه الائتلافات غير منظمة ذاتياً: وللقيام بذلك، ستحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع شركاء محليين ضد خصوم مشتركين، مثلما فعلت مع الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط في سبعينيات القرن الماضي ومع أفغانستان في الثمانينيات.
وبالتالي، فإن القوات المرهقة الموالية للنظام في سوريا، التي تعتمد على خطوط اتصالات منكشفة تمر عبر مناطق ذات أغلبية سنّية، معرّضة لإستراتيجية سرية مكلّفة تستخدم وكلاء عصابات لمنع نظام الأسد من ترسيخ مكاسبه. والآن بعد أن أصبح تدخل طهران في سوريا قضية سياسية في إيران، فقد بات مصدراً لضعف النظام الإيراني – خاصة إذا ما زادت تكاليف تدخله، وإذا ما أدى تدهور الوضع الاقتصادي في الداخل إلى إرغام طهران على تقليص مليارات الدولارات من المعونات الاقتصادية السنوية التي تساعد نظام الأسد على الصمود.
وقد تؤدي مثل هذه الاستراتيجية أيضاً إلى تقويض القوى الموالية للنظام في سوريا، مما يحدّ من قدرتها على تهديد المناطق التي لا تزال خارج سيطرة النظام، وإحداث تدفقات جديدة من اللاجئين المزعزعة للاستقرار، وكذلك على إثارة المشاكل في أماكن أخرى في المنطقة. وتكمن جاذبية هذه الإستراتيجية في أن معايير نجاحها منخفضة نسبياً: فمن الأسهل بكثير أن تعيث فساداً بدلاً من أن ترسي استقراراً ونظاماً سياسياً مستداماً (وهي العبرة التي استخلصتها الولايات المتحدة وأثارت استيائها في العراق وأفغانستان).
كما أن المقاومة المتجددة للقوات الموالية للنظام في المناطق التي استعادتها هذه الأخيرة، قد تمنح الولايات المتحدة فرصاً إضافية لرسم معالم التطورات في سوريا وتنفيذ إستراتيجية وكالة فيها. وبالفعل، نجحت البرامج السابقة المتواضعة نسبياً لتسليح قوات المتمردين بصواريخ مضادة للدبابات وغيرها من أشكال المساعدة العسكرية في التخفيف من حدة هجمات النظام وتأجيج هجمات المتمردين (على الرغم من أن الظروف الحالية قد لا تحبذ إعادة تنشيط الجهود). وإذا تجنبت الحكومة الأمريكية هذا الخيار، فمن المرجح أن يندفع مجدداً الجيل المقبل من المتمردين نحو جماعات متطرفة مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» و «هيئة تحرير الشام»، وهما ثمرتان من فرع محلي سابق لتنظيم «القاعدة». وبهذه الطريقة، تعتبر محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» ومواجهة النفوذ الإيراني أهدافاً مكمّلة وليست متعارضة.
وفي حين أن الجهود الرامية إلى رسم معالم الصراع وفرض تكاليف على القوات الموالية للنظام قد تفتقر إلى صفة الدبلوماسية الدولية لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا، إلّا أنّ المفاوضات لن تؤتي ثمارها طالما بقيت القوات الموالية للنظام مؤمنة بوجود حل عسكري للصراع وطالما تفتقر واشنطن إلى النفوذ العسكري على النظام. وتساعد الديناميكية المتطورة في سوريا على تزويد إدارة ترامب بفرص جديدة – لو تمكنت فقط من اغتنامها – لردع أو منع هجمات إضافية يشنها النظام، وتدفقات اللاجئين بأعداد كبيرة، ونشوب حروب إقليمية مزعزعة للاستقرار في جزء من العالم لا يزال، سواء شئنا أم أبينا، يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة.
مايكل آيزنشتات
معهد واشنطن