امنحوا الفلسطينيين الأمل وربما يشق السلام طريقه

امنحوا الفلسطينيين الأمل وربما يشق السلام طريقه

إذا تواجد قَط صراع محصلته صفر فهو الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فلطالما نظر كل من الجانبين إلى الجانب الآخر بشغف وعاطفة وانعدام الثقة. وربما لا يجب أن يكون ذلك مستغرباً. فالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني هو في الأساس واحد من حركتين وطنيتين تتنافسان على المجال نفسه. ولفترة طويلة جداً من الزمن، نظر الجانبان إلى الصراع من الناحية الوجودية، مع قدر ضئيل من القدرة على أخذ احتياجات الجانب الآخر ومظالمه بعين الاعتبار.

في تسعينيات القرن الماضي عندما كنتُ المفاوض الرئيسي للولايات المتحدة في الصراع العربي-الإسرائيلي، أجرينا مفاوضات جدية وبدا أن هناك اعتراف حقيقي من جانب كل طرف بالطرف الآخر. ثم كان هناك إحساس بإمكانية التوافق بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والعرب بشكل أعم. أما اليوم، فقد تغيّرت الأحوال – وقد يبدو الأمر مفاجئاً عندما يتعاون القادة العرب السنّة في الخليج ومصر والأردن بصورة ضمنية مع إسرائيل لمواجهة ما يرونه تهديدات خطيرة من قبل إيران والإسلاميين المتطرفين.

لكن هذا التعاون المولود من القول المأثور “عدو عدوي صديقي”، لم يُترجم إلى صنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وبينما تشكّل الثغرات النفسية الخلافات الحقيقية حول القضايا، يجب ألا نتوقع أن تُؤدي جهود صنع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى إحراز تقدم حقيقي في أي وقت قريب. فقد عززت هذه الفجوات النفسية وانعدام الثقة الأساسي بين الجانبين رواية كل طرف – مما جعلهما ومؤيديهما أقل رغبة في التشكيك في رواياتهما الخاصة أو حتى قبول الفكرة بأنه ربما تكون بعض ادعاءات الطرف الآخر صحيحة نوعاً ما.

ولطالما قلتُ إن السلام يأتي من رؤية الواقع كما هو فعلاً، وعدم السماح للأساطير بإنكاره. لكن للأسف، أشعر أن الأحداث التي شهدَتْها غزة في الآونة الأخيرة عززت رؤية مشوّهة للواقع – ولم يساعد الكثير من التقارير في توفير معلومات دقيقة حول ما يجري بالفعل.

وقبل تفسير الواقع الحالي، دعوني أقدّم بعض الوقائع الأساسية: تضم غزة حوالى مليوني شخص يعيشون في مساحة تناهز 360 كيلومتراً مربعاً. وتوازي مساحتها تقريباً مدينة ديترويت الأمريكية، كما يعيش حوالي نصف سكانها في مخيمات للاجئين، ويشعرون وكأنهم يعيشون في سجن، حيث يصعب جداً الدخول إلى غزة أو الخروج منها.

وبينما تركّز معظم التقارير على العزل الذي تفرضه إسرائيل على غزة، إلا أن إسرائيل تسمح بدخول السلع والمساعدات الإنسانية والاقتصادية وبتنقل حاملي التصاريح. أما مصر، المجاورة لغزة من جهة أخرى، فتبقي حدودها مغلقة، ولا تسمح بتنقل الأشخاص والسلع – إلا في حالات نادرة.

لماذا تسيطر إسرائيل على ما يدخل إلى غزة وإلى أي مدى باستطاعة الصيادين من القطاع الاصطياد في البحر المتوسط؟ ومجدداً، لا بدّ من العودة إلى بعض الأحداث التاريخية. في عام 2004، بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون أنه سيفك الارتباط مع الفلسطينيين، [أمَرَ] بسحب كافة المستوطنين والجنود الإسرائيليين من غزة في آب/أغسطس 2005. وقام أيضاً بتدمير جميع المساكن الاستيطانية هناك، لكنه قرر ترك البيوت الزراعية المحمية المنتجة التي كان يمكن أن تعود بالفائدة على الزراعة في غزة. وللأسف، تمّ نهبها وتدميرها بعد انسحاب إسرائيل. وعند انسحابها، لم تفرض إسرائيل أي حظر أو عزل على غزة.

وأرادت «حماس» أن تبدو وكأنها من أرغمت الإسرائيليين على الانسحاب بفضل عمليات “المقاومة” العنيفة التي مارستها. لكن للأسف، لم توقف «حماس» أعمال العنف والإرهاب بعد انسحاب إسرائيل. وفي غضون أسبوعين، نفذت تفجيراً في مدينة بئر السبع الإسرائيلية. وخلال الأشهر الستة المقبلة، كانت مسؤولة عن تنفيذ هجمات ضد معابر كانت تتيح مرور السلع التجارية بين غزة وإسرائيل وتسمح لعمال غزة بالدخول إلى إسرائيل للبحث عن عمل.

وبسبب تلك الهجمات، قامت إسرائيل، التي كانت تدير ستة معابر، بتخفيض عددها إلى اثنين وقلّصت ساعات العمل في الوقت الذي عززت فيه التدابير الأمنية أيضاً. وحتى في ذلك الحين، لم تفرض إسرائيل حظراً إلا بعد أن قامت «حماس» فعلياً بانقلاب ضد “السلطة الفلسطينية” في عام 2007 واستولت على الحكم في غزة. والسبب الحقيقي وراء ذلك: وقف تهريب الأسلحة والصواريخ ومواد تصنيع القنابل إلى غزة.

تجدر الملاحظة أنه في عام 2005، بعد إعلان إسرائيل عن نيتها الانسحاب من القطاع، لكن قبل قيامها بالانسحاب الفعلي، تلقيتُ دعوة للتحدث إلى بضعة مئات من الفلسطينيين في غزة. وخلال حديثي، قلتُ إن الفلسطينيين لم يتمكنوا أبداً من التحكم في مصيرهم – فالعرب قرروا ما الذي يمكن عمله في عام 1948. وفي قمة “كامب ديفيد” خلال فصل الصيف في نصف الكرة الأرضية الشمالي عام 2000 قال لي ياسر عرفات إنه أراد الذهاب إلى [اجتماع] “كامب ديفيد” الأصلي في عام 1978 ولكن السوفييت والسوريين منعوه من ذلك. لكنني قلتُ: إن إسرائيل الآن في صدد الخروج، وإذا حوّل الفلسطينيون غزة إلى محط اهتمام مستمر وقاموا بتطويرها، سيقول المجتمع الدولي والشعب الإسرائيلي، “لماذا لا يُطبّق ذلك على الضفة الغربية أيضاً؟” لكن إذا حوّل الفلسطينيون غزة إلى منصة للهجمات ضد إسرائيل، فمن سيقول حينها “لنأخذ هذا النموذج الفاشل ونطبقه في مكان آخر”.

نحن نعلم فعلياً ما الذي قررته «حماس». فقد فضلت بناء الأنفاق وصناعة الصواريخ ومواصلة حربها ضد إسرائيل، وبدورها ردت إسرائيل بفرض تدابير أكثر صرامةً على دخول غزة. ومن الذي عانى؟ الفلسطينيون – في غزة من خلال ثلاثة صراعات مدمرة في 2008 – 2009 و 2012 وأسوأها في 2014. وقد استمر وقف إطلاق النار الذي أنهى الصراع عام 2014 لفترة طويلة عموماً، لكن الحاجة إلى إعادة الإعمار لا تزال كبيرة، حيث أن البنية التحتية للطاقة الكهربائية محدودة للغاية، وأن ما لا يقل عن ثلث المنازل المهدمة لم يتمّ ترميمها بعد. ومع كل هذه الاحتياجات، تواصل «حماس» تحويل مواد البناء لبناء الأنفاق لمقاتلي «حماس» الذين يأملون التغلغل إلى داخل إسرائيل.

ولكن مع تدهور الأوضاع، قرر رئيس “السلطة الفلسطينية” محمود عباس في أوائل هذا العام، أولاً عدم دفع رسوم تزويد غزة بالكهرباء إلى إسرائيل، ثم في آذار/مارس، قرر وقف دفع رواتب موظفي “فتح” السابقين في القطاع – في خطوتين ساهمتا إلى حدّ كبير في مفاقمة الأوضاع في غزة. وقد أراد الضغط على «حماس» من أجل تقديم تنازلات، ويبدو أنه نجح حين وافقت قيادة الحركة في غزة على ضرورة قيام “السلطة الفلسطينية” باستئناف مسؤولية الحكم في القطاع. (وقد ذهب زعيم «حماس» الجديد في غزة، يحيى السنوار، إلى حد القول بأن «حماس» قد فشلت في الحكم). لكن جهود المصالحة فشلت أيضاً عندما طالب عباس حركة «حماس» بالتخلي عن ميليشياتها وأسلحتها، وأشار إلى أنه لا يمكنه القبول بنموذج «حزب الله» في غزة حيث تتولى “السلطة الفلسطينية” مسؤولية مدنية بينما تحافظ «حماس» على النفوذ النهائي بسبب أسلحتها. ومما زاد الطين بلة، أنه حين تعرّض رئيس وزراء “السلطة الفلسطينية” رامي حمدالله لمحاولة اغتيال في غزة، هدد عباس بقطع المزيد من الأموال.

إلّا أنّ غزة تحتاج إلى تدفق كبير للأموال، وليس إلى المزيد من الاقتطاعات. فالأوضاع هناك سيئة حقاً. وبالكاد يتمّ توفير الكهرباء لمدة أربع ساعات يومياً؛ كما أن 96 في المائة من المياه غير صالحة للشرب؛ ولا توجد طاقة [كهربائية] لتشغيل محطات معالجة مياه الصرف الصحي؛ ويبلغ معدل البطالة العام 44 في المائة، في حين تبلغ هذه النسبة 60 في المائة ضمن الفئة العمرية التي تتراوح بين 15 و29 عاماً.

وعندما لا يكون لدى الشعب إلا القليل ليخسره، لا يجب أن تفاجئنا القدرة على حشده من أجل تنفيذ مظاهرات ترمي إلى اختراق السياج الحدودي مع إسرائيل. وهذا السياق تحديداً هو الذي يساعد على تفسير ما الذي كان يجري ولماذا بدأت «حماس» قبل ستة أسابيع تقريباً من كتابة هذه السطور بتنظيم مسيرات حاشدة للتوجه إلى السياج ومحاولة التغلغل إلى إسرائيل. وقالت «حماس» إن الاحتجاجات ستكون سلمية حتى في ظل تسميتها “مظاهرات العودة” – أي العودة إلى المنازل الفلسطينية في إسرائيل. لكن بالطبع، أولئك الذين تمّ حشدهم لا يملكون منازل للعودة إليها في إسرائيل، كما أن إسرائيل ليست الدولة التي كانت في عام 1948.

إذاً ما سبب كل ذلك؟ يسعى قادة «حماس» إلى تحقيق عدة أهداف. أولاً، ضمن قطاع غزة، تحويل انتباه الناس عن الإخفاقات المحلية للحركة. ثانياً، ممارسة ضغوط موازية على عباس، إذ لا يمكن أن يكون غير مبال بينما يموت فلسطينيون على أيدي إسرائيليين. ثالثاً، جعل «حماس» محور الحركة الفلسطينية. رابعاً، رسم صورة سيئة لإسرائيل أمام أنظار العالم كوسيلة لإضعاف قدرتها أيضاً على الدفاع عن نفسها وتشويه سمعتها دولياً. خامساً، إعادة القضية الفلسطينية إلى وعي المنطقة والعالم على حد سواء.

ومن وجهة نظر «حماس»، كلما زاد عدد الضحايا الفلسطينيين، كلما كان ذلك أفضل. وفي الرابع عشر من أيار/مايو، حين لقي 62 فلسطينياً حتفهم، كان قادة «حماس» يعلنون زوراً أنه تمّ اختراق السياج [الفاصل بين إسرائيل وغزة] وأن الإسرائيليين كانوا يتراجعون؛ وقد حثّ هؤلاء القادة أولئك الذين تم حشدهم للمشاركة في المظاهرات، على متابعة سيرهم عبر الدخان والغاز المسيل للدموع وإطلاق النار – وهو ما زاد بالتأكيد من عدد الوفيات. وكانت «حماس» على يقين بأن الإسرائيليين لن يسمحوا باختراق حدودهم من قبل أولئك الذين لم يكن هدفهم من الدخول إلى إسرائيل لغرض النزهة.

وهناك نقطة إضافية مهمة يجب توضيحها: الإشارة إلى أنه في يوم الإثنين، الرابع عشر من أيار/مايو، حشدت «حماس»  40 ألف شخص عندما افتتحت إدارة ترامب السفارة الأمريكية في القدس – في حدث فسّره الفلسطينيون (على نحو خاطئ) بأنه ينكر مطالبهم بالجزء الشرقي من المدينة.

لكن كان يُفترض أن يكون ذلك اليوم مقدمة لأكبر حشد في اليوم التالي، الثلاثاء – الخامس عشر من أيار/مايو، أو يوم “النكبة”، الذي يحيي ذكرى تأسيس دولة إسرائيل الذي يعتبره الفلسطينيون كارثة بالنسبة لهم. وكان ذلك بمثابة تتويج للأسابيع الستة من المظاهرات التي سبقت ذلك التاريخ، حيث أعلنت «حماس» أنها تخطط لحشد متظاهرين يبلغ عددهم 100 ألف شخص. ولكن في الخامس عشر من أيار/مايو لم يشارك سوى 4 آلاف متظاهر، مع مقُتل شخصين منهم.

ما الذي حدث هنا؟ يبدو أنه كان هناك رد فعل عنيف إزاء عدد القتلى الذي وقع يوم الإثنين. وتجلى ذلك في يوم الأربعاء عندما أعلنت «حماس» علناً، بعد أن ادّعت بأن المسيرة كانت سلمية، أن 50 شخصاً من بين القتلى الـ 62، كانوا من عناصرها. وبدا وكأن قادة «حماس» كانوا يقولون: “نحن لم نرسل الأبرياء للموت؛ فالعدد الأكبر من الضحايا هو من مقاتلينا”. (إذا كان ذلك صحيحاً، فهو يفضي إلى تأكيد صحة إدعاءات إسرائيل بتعرض [جنودها] للعنف وإطلاق النار عليهم).

وإذا شعرت «حماس» بضرورة قول ذلك، وإضعاف روايتها في الواقع، فإن ذلك يذكرنا بأن هناك حدوداً لما يمكن أن تقوم به الحركة. ولكن يجب أن يذكرنا أيضاً بأن الوقت قد حان للتعامل مع الأوضاع الاقتصادية في غزة. فعاجلاً أو آجلاً، ستؤدي هذه الظروف إلى انفجار؛ ومن وجهة نظر إنسانية من الخطأ ببساطة عدم معالجة الظروف المروعة في القطاع. وكانت إدارة ترامب قد عقدت اجتماعاً للدول المانحة حول غزة قبل حوالي ستة أسابيع من كتابة هذه السطور، لكن شيئاً لم يتمخض عنه. ونظراً إلى افتقار الإدارة الأمريكية إلى المصداقية مع الفلسطينيين حالياً، ربما من الأفضل أن يُصدر القادة الأوروبيون والعرب بياناً مشتركاً يعلنون فيه بأنهم سيقومون بتمويل مشاريع جاهزة للتنفيذ فور معالجة مشاكل الكهرباء، والمياه، ومياه الصرف الصحي، موضحين أنه لا يمكن القيام بهذه المشاريع ما لم يكن هناك هدوء.

ولا يمكن لقادة «حماس»، لا سيما حالياً، أن يبدوا وكأنهم يعطّلون المساعدات التي من شأنها أن تخفف من الوقائع الاقتصادية الرهيبة في غزة. هذه ليست قصة خيالية. إنه الواقع الذي لا بدّ من معالجته فوراً – ومن يدري، إذا كان من الممكن تحسين الأوضاع في غزة، فقد يعيد ذلك بعض الأمل بإمكانية معالجة المشاكل السياسية الأكبر ضمن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

دينيس روس

معهد واشنطن