تحول كبير وخلخلة في ميزان القوى يحدث في الأراضي السورية لمصلحة المعارضة العسكرية، بالتزامن مع تطورات شكّلت تحوّلاً في سياسة أهم الدول الفاعلة والمؤثرة في دعم المعرضة السورية، كان أهمها «عاصفة الحزم»، التي لم تهدف فحسب إلى تصحيح وضع اليمن، وإنما الوضع في المنطقة، وتحجيم الدور الإيراني المتضخم فيها.
إذ لم تقتصر رياح «عاصفة الحزم» على انهيار إحدى ركائز المشروع الإيراني في اليمن فحسب، ففي الوقت الذي كان يشاهد فيه العالم الوحدة العربية في مواجهة المشروع الإيراني على أيدي وكلائه الحوثيين، كانت الفصائل السورية المعارضة التي أعلن معظمها تأييدها «عاصفة الحزم» تتحد وتتحالف لتشكل جيشاً حرّر في خمسة أيام مدينة إدلب، وليخسر بذلك النظام السوري ثاني محافظة له بعد الرقة.
فمع «عاصفة الحزم» هبت عاصفة غرفة عمليات جيش الفتح، وأصبحت المعارضة تتقدم يوماً بعد آخر وبشكل متسارع، فغرفة عمليات جيش الفتح التي ضمت فصائل حركة أحرار الشام الإسلامية، وجبهة النصرة، وجند الأقصى، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام، ابتدأت في شمال سورية برسم خريطة عسكرية جديدة، تستطيع أن تفرض واقعاً سياسياً أقوى للثورة، وتشكل نوعية عمل عسكري يعيدان ترتيب الأوراق بما يخدم أهداف الثورة.
ومن هذا الجيش انطلقت بعدها «معركة النصر»، التي جاءت بتنسيق بين فصائل غرفة عمليات «جيش الفتح»، إضافة إلى جيش الإسلام؛ من أجل السيطرة على بقية مدن ريف إدلب، وحقّقت فصائل المعارضة السورية المسلحة من خلالها في شمال البلاد تقدماً كبيراً بالسيطرة على معسكر القرميد الاستراتيجي ومدينة جسر الشغور، خط الدفاع الأول لقوات النظام عن منطقة الساحل، وأهم خطوط إمدادها، ويُرجّح أن تبدأ الفصائل معارك إسقاط ما تبقّى من مواقع عسكرية لقوات النظام في محافظة إدلب، كمعسكر المسطومة ومدينة أريحا، إضافة إلى بلدتي الفوعة وكفريا المواليتين. ومن شأن هذه الخطوة أن تضع محافظة إدلب كلها خارج سيطرة النظام، وهو ما يفتح المجال أمام احتمالات عدة، سواءً على الصعيد الميداني، لناحية المسار المستقبلي للمعارك، أم على الصعيد السياسي، وهو ما يعطي المعارضة عوامل قوة إضافية في مفاوضات «جنيف 3».
لقد استطاعت المعارضة أن تحقق تلك الإنجازات الميدانية على الأرض في وقت قصير، بعد أن استطاعت هذه المرة تجاوز أكبر إشكالٍ كانت تعاني منه، وهو التناقض والاختلاف بين الكتائب المسلحة، وارتباط بعضها بسياسات دول كانت مختلفة في رؤيتها، إذ قاد تحالف «عاصفة الحزم» إلى إحداث توافق بين هذه الدول في الرؤى، أدى إلى تأسيس «جيش الفتح»، وإطلاق معركة النصر، وهو ما يمهد إلى تأسيس تحالفات في مناطق أخرى على منوالها (حلب، وريف دمشق)، ويجعل الصورة في وضعها الراهن مختلفة كلياً عما كانت عليه، وبات النظام الذي كان يتحكم بإيقاع المعارك وتوجيهها مع حلفائه لمصلحته، في موقف أضعف وأكثر ارتباكاً، ليس بسبب خسارته في الجهة الشمالية فحسب، بل وبخسارته قبل ذلك في الجهة الجنوبية، فسيطرة الجبهة الجنوبية (الجيش الحر)على مدينة بصرى الشام بريف درعا شكلت ضربة قاسمة للنظام ولإيران، التي كانت تقود المعركة هناك بقيادة قاسم سليماني، إذ كان هذا النصر دافعاً لتحرير مناطق أخرى أهمها معبر نصيب الحدودي، وهو ما جعل النظام عاجزاً عن مواجهة هذا الاندفاع، ولاسيما أن الهجمات الأخيرة جاءت في وقت كانت دعاية النظام تشيع عن هجوم وشيك لجيشه على مدينة إدلب لاستعادتها من المعارضة، لكنه فوجئ بهجوم استباقي من المعارضة جعله من جديد في موقع الدفاع التراجعي، وقد أشار السفير الأميركي السابق لدى سورية، روبرت فورد أكثر الخبراء بالشأن السوري، في مقالة نشرها منذ أيام بعنوان: «مؤشرات على بداية نهاية النظام السوري» إلا «أن التطورات الأخيرة قد تكون في الواقع هي مؤشرات على بداية النهاية بالنسبة إلى هذا النظام، وأنه في موقف دفاعي على نطاق واسع الآن، وأن ما نراه اليوم قد يكون علامة بداية نهايتهم».
ويظل الأمر المهم الآن هو قدرة الدول الداعمة للمعارضة على توحيد المعارضة وربط الفصائل المسلحة على الأرض بعنصر وجسم سياسي واحد، من أجل تنفيذ وتثبيت مخرجات بيان جنيف1، بتشكل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، ليس للأسد أية عملية سياسية فيها، فالانتصارات التي حققتها قوات المعارضة المسلحة يجب أن تستثمر سياسياً، بتكثيف الضغوط على النظام السوري، بما يؤدي إلى إضعاف موقفه، وتخليه عن نهج التعنت والمماطلة. أما ما يثار حول مشاركة جبهة النصرة في غرف العمليات، فإن العمليات تجري بالتنسيق معها كفصيل وليست هي من يتصدر المشهد، ولا تزال معظم الفصائل وعلى رأسها «أحرار الشام» تدفع باتجاه فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، وتحويلها تدريجياً من مشروع جهادي إلى مشروع وطني سوري، بالاعتماد على العناصر السورية القيادية في الجبهة على حساب المقاتلين الأجانب، في وقت لم تفلح فيه الجهود الإقليمية والدولية بدفع جبهة النصرة إلى مزيد من التكيّف مع الشأن الداخلي السوري وفك ارتباطها بتنظيم القاعدة، وتشير بعض المصادر إلى احتمالية وجود سيناريو يهدف إلى دفع العناصر التي تميل إلى الانفصال عن «القاعدة»، إلى اتخاذ قرار بالانفصال عن جبهة النصرة، وهو ما قد تتضح بعض معالمه خلال المرحلة المقبلة.
الحياة